للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بخروجكم علينا ولا قويتم. . . خلوا سبيل الشيخ!

وكان قوم يتحلمون على السفهاء إذا اعترضهم الأذى، بل ربما تعرضوا إليهم عامدين طلباً لاكتساب الحلم وتدرباً عليه، وقهراً للنفس على السكون، وتعويداً لها على المسامحة. روى أن جعفر بن محمد الصادق كان إذا أذنب له عبد أعتقه. فقيل له في ذلك فقال: إني أريد بفعلي هذا تعلم الحلم! ومن كلام الأحنف ابن قيس وكان من أحلم الناس: لست بحليم ولكني أتحلم!

وبقول أبو عثمان الجاحظ في بيانه وتبيينه: (كانوا يأمرون بالتحلم والتعلم، وبالتقدم في ذلك أشد التقدم)، وحجة القائلين بهذا أن تكلف الفضيلة عند فقدها فضيلة. نعم، يفرق الصوفية - في المعنى وفي الدرجة - بين حالتي الوجد والتواجد مثلاً، ولكنهم لا ينكرون المقام الأخير متى قصد به التوسل إلى بلوغ الأول وتحصيله، والأصل عند الجميع في هذا ما يروي عن الرسول عليه الصلوات من قوله: إن لم تبكوا فتباكوا!

هذا وقد تحمل الشفقة على المسيء والرحمة إلى مقابلته بالحلم، إذا ما تقرر في الذهن أن الإساءة لا تعدو أن تكون تصرفاً مريضاً مبعثه الجهل، وأن صاحبه أولى بالعلاج منه بالعقوبة، وهذا باعث كريم على التحلم لا يتسامى إليه من النفوس إلا أكرمها عنصراً وأزكاها جوهراً.

ولقد عوتب كسرى أنوشروان مرة على ترك عقوبة المذنبين فقال: هم المذنبين ونحن الأطباء، فإذا لم نداوهم بالعفو فمن لهم؟. وقال إبراهيم التيمي: إن الرجل ليظلمني فأرحمه! قال الغزالي: (وهذا إحسان وراء العفو، لأنه يشتغل قلبه بتعرضه لمعصية الله تعالى بالظلم، وأنه يطالب يوم القيامة فلا يكون له جواب).

وحكي الفضيل بن عياض قال: ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان، جلس إليّ في المسجد الحرام ثم قام ليطوف، فسرقت دنانير كانت معه. فجعل يبكي. فقلت: أعلى الدنانير تبكي؟ فقال لا، ولكن مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل، فأشرف عقلي على إدحاض حجته، فبكائي رحمة له!

وقد يحلمون - في غير موضع الحلم - تجانفاً عن شبهة قد تعرض في القصاص وإن كان عدلاً، والتماساً لمرتبة من الخلق أسمى من هذا العدل، وأبعد مما يتلبس به من تلك الشبهة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>