قال عمر بن عبد العزيز لرجل غلط غالطاً أشتد له غضبه: لولا أنك أغضبتني لعاقبتك. وإنه في هذا ليأتسي بجده أبن الخطاب، وقد أشرنا - فيما سبق - إلى كفه عن السكران الذي شتمه، وقوله: إنه أغضبني، ولو عزرته لكان ذلك لغضبي لنفسي. . .
وربما يكون التحلم وسيلة لتحقيق غاية بعيدة، خفية أو ظاهرة؛ من تطيب نفس، أو ربَّ صنيعه، أو إتمام سالف جميل، أو مراعاة قديم حرمة، أو تمهيد لاستعانة وتكليف. وكان أصحاب الجنايات من الولاة والوزراء والعمال يدركون هذا الباعث، ويعملون على أثارته في نفوس الخلفاء إذا هم تعرضوا لسخطهم وصاروا موضع نقمتهم.
ولى معاوية روحَ بن زنباع ثم عتب عليه في جناية فكتب إليه بالقدوم. ولما قدم أمر بضربه بالسياط، فلما أقيم ليضرب قال: أنشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تهدم مني ركناً أنت بنيته، أو أن تضع مني خسيسة أنت رفعتها، أو تشمت بي عدواً أنت وقمته، وأسألك بالله إلا أتي حلمك وعفوك دون إفساد صنائعك. فقال معاوية: إذا الله سني عقد أمر تيسر. . . خلوا سبيله.
ومن العفو لمثل هذا الباعث عفو الأمين عن الحسين بن علي ابن عيسى بن ماهان، وكان قد انتقض عليه أيام حربه مع المأمون، وخلعه وحبسه يومين في قصر أبي جعفر، ثم بايع للمأمون ولكن قام أسد الحربي وجماعة فدافعوا عن الأمين، فيلوا رأي الجند فيما صنعوه من طاعة الحسين بن علي. ثم قاموا فقاتلوا الحسين وأصحابه، وكسروا قيود الأمين وأجلسوه في مجلس الخلافة، ولما أتى بالحسين لامه على انتقاضه وذكره بسالف نعمته عليه وعلى أبيه (وكان أبوه قد قتل على رأس جيش الأمين في حربه مع المأمون)، ثم قال الأمين: ما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي، وتؤلب الناس عليّ، وتندبهم إلى قتالي؟ قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين، وحسن الظن بصفحه وتفضله. قال: فإن أمير المؤمنين قد فعل بك ذلك، وولاك الطلب بثأرك ومن قتل من أهل بيتك! ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وحمله على مراكب وأمره بالمسير إلى حلوان. وخرج الحسين فهرب مرة أخرى في نفر من خدمه ومواليه؛ فنادى محمد في الناس فخرجوا في طلبه حتى أدركوه فقتلوه. . .
وقد يدفع بالنفس إلى التحلم مجرد ما تدركه من فضيلة الحلم، وما تشاهد من جميل أثره على المتصفين به في الدنيا؛ مع ما ينتظرهم من الكرامة عند الله في الآخرة. ذلك أن