بها من لذات الشراب وطيب العيش عرجنا عليها لنجدد عهد الراحلين عنها، فأقمنا بها يوماً كان العزم أن نرحل بعده، ولكن طابت لنا الإقامة فمكثنا يوماً آخر، وحلا لنا التمادي في التمتع بلذة الشراب بهذا المكان فتلبثنا يوماً ثالثاً، واستمرأنا الإقامة على هذه الحال فتراخينا يوماً رابعاً، وفي اليوم الخامس اضطررنا إلى الرحيل.
فهل كان يمكن أن يؤدي هذا الشعور بغير ذلك التكرير! وأن العائبين عليه ليريدون أن يقيموا من البيت جداراً مسموكاً لا تنفذ منه أشعة ذلك الإحساس المعهود في الحالات التي تستطيبها النفس وتتمنى دوامها. وأي تكرار يورث اللفظ حلاوة، ويكسب المعنى طلاوة إن لم يكن هو هذا التكرار. .؟
ولقد أتى أبو نؤاس بنوع آخر من التكرار إذ قال في وصف صاحبته جنان:
والحسن في كل عضو ... منها معاد مردَّد
فليس هذا التكرار في اللفظ ولا في المعنى، بل المكرر الجمال يرى معاداً مردداً في كل عضو من أعضائها، وهذا التكرار ليس كمثله إلا (تكرير) السكر. . .
ويجرنا حديث التكرار إلى بعض المفارقات العجيبة في هذا الباب، فبينما تجد نسقاً منه لم يدفع إليه إلا العي والحمق، إذا أنت ترى ما يشبه هذا النسق مقبولاً مستساغاً قال الجاحظ في باب العي من (البيان والتبيين):
(وتزعم بنو تميم أن صبرة بن تيمان قال في حرب مسعود والأحنف: إن جاء حتات جئت، وإن جاء الأحنف جئت، وإن جاء جارية جئت، وإن جاءوا جئنا، وإن لم يجيئوا لم نجئ!)
وأنت تعرف التكرير الذي أحلولي به أسلوب الدكتور طه حسين بك، والعجيب أن نحواً منه يشبه الكلام المعزو إلى صبرة بن تيمان. وهناك أمثلة من مقال له عن كتاب (نابليون) تأليف إميل لودفيج في مجلة الكاتب المصري الصادرة في أول أكتوبر الحالي:
(ولست من المعجبين بإميل لودفيج وفنه إعجاباً شديداً. ومصدر هذا في أكبر الظن أني لم أقراه في نصه الألماني، ومصدر هذا في أكبر الظن كذلك أن بين خياله الألماني البعيد وتفكيره الألماني الملتوي وبين خيالي القاصر وعقل العربي الذي يواجه الأشياء أكثر مما يدور حولها، أمداً بعيداً، ومصدر هذا في أكبر الظن كذلك أني حاولت أول ما حاولت أن أعرف لودفيج عن طريق كتابه عن حياة المسيح، ومن طريق كتابه عن حياة جوت، فلم