قال الجاحظ: نظرنا في شعر القدماء والمحدثين، فوجدنا المعاني نقلت، ورأينا بعضنا يسرق من بعض إلا قول عنترة:(وخلا الذباب بها فليس ببارح) وقول أبي نؤاس: (قرارتها كسرى. . الخ).
وأرجع إلى جادة البحث فأقول: إنني أخالف مؤلف المثل السائر وصاحبي البلاغة الواضحة في الزراية على بيت أبي نؤاس ورميه بالتكرار المعيب، وأخالف الأخيرين في أن أبا نؤاس وصحبه أقاموا بدار الندامى ثمانية أيام؛ وأقدم الكلام على المسألة الثانية لأفرغ للأولى.
الشطر الأول:(أقمنا بها يوماً ويوماً ثالثاً) يدل على ثلاثة أيام قطعاً، أما الشطر الثاني (ويوماً له يوم الترحل خامس) فيقول صاحبا البلاغة الواضحة إنه يدل على خمسة أيام أخرى، وإني لأعجب كيف يقولان ذلك وهما معدودان في الصف الأول من رجال اللغة العربية في هذا العصر، وهل يستقيم في العربية أن تقول - على رسم ذلك -: أقمت يوماً في الإسكندرية له يوم السفر خامس؟! إنهما يعلمان أن صيغة (فاعل) من العدد لا تكون في مثل هذا الاستعمال إلا مصيره ما تحتها بدرجة واحدة مساوياً للعدد الذي اشتقت منه، أو دالة على بعض العدد الذي اشتقت منه، فيقال خامس أربعة وخامس خمسة، ولا يقال خامس واحد أو اثنين أو ثلاثة. وعلى أن هذا لا يدل قوله (ويوماً له يوم الترحل خامس) إلا على أن هذا اليوم هو الرابع ويوم الرحيل خامسه؛ فالبيت يدل على أنهم أقاموا أربعة أيام وسافروا في اليوم الخامس.
أما الحملة العنيفة التي حملها الشيخ ضياء الدين على التكرار الوارد في بيت أبي نؤاس وتابعه فيها صاحبا البلاغة الواضحة، إذ عّدوه تكراراً معيباً سخيفاً، وعجبوا من الإتيان به في ضمن أبيات عجيبة الحسن - فإني أرد هذه الحملة عن البيت، وأريح العاجبين من عجبهم الذي لا محل له، لأن البيت نفسه عجيب كالحسن كأخوته، وما كان لأبي نؤاس - وهو أبو نؤاس وقد واتاه الإبداع في سائر الأبيات - أن يسف هذا الإسفاف بحيث يكون كل ما يريد أن يؤديه بهذا البيت أنهم أقاموا بالدار أربعة أيام أو ثمانية ويرتكب لتأدية هذا المعنى التافه ذلك التكرار الذي لا غرض فيه ولا قصد منه!
إنما يقول أبو نؤاس إن هذه الدار التي غادرها أهلها مخلفين بها آثاراً تدل على ما كان لهم