وكنا جلسنا في هذه الحديقة أيام مهرجان أبى العلاء في طريقنا إلى حلب وفي رجوعنا إلى دمشق وفي سفرتنا الأخيرة من دمشق إلى حلب، فجلسنا فشربنا القهوة، فإذا أحد رفقاء السفر ممن يعرفنا ولا نعرفه تطوع بأداء ما علينا إذ وجدها فرصة للإعراب عن مودته وإكرام إخوانه وضيوفه على الطريق بأية وسيلة، وما زال يرتقب الفرص ليسرنا بكلمة أو فعلة حتى افترقنا.
وخرجنا من دمشق يوم الجمعة ٢٤ من شوال (١٩ أيلول) نؤم حيفا لنركب منها قطار مصر. وكان بجانب السائق رفيق لم يصلنا به تعارف ولا تحادث. فلما بلغ بنا المسير الحدود الموهومة التي تفصل سورية وفلسطين - تلك الحدود لم يخلقها الله ولم يقرها الحق، ولا عرفها تاريخ البلاد، ولا اعترف بها سكانها - نزلنا ننتظر الإذن بدخول فلسطين بعد رؤية جوازات السفر والأعمال المعتادة على الحدود، ورأينا دكاناً أمامه كراسي فأخذنا سجاير وجلسنا لنشرب القهوة أنا والأستاذ محمد خلاف بك، ووجد ذلك الرفيق الذي لم يحادثنا ولا تعرف إلينا فرصة للتودد إلينا والأعراب عما يضمره من مودة فأصر على أن يؤدي ثمن القهوة وأبى أن يستمع لقولنا، وان يلين لإلحاحنا.
ثم اجتزنا الحدود وواصلنا السير حتى مررنا بعين عذبة باردة يجري عنها الماء في جدول وفي أنابيب من الحديد. فنزلنا هناك لنشرب من العين ووجدنا دكاناً فتقدمنا لنشتري فاكهة وقلنا حبذا فاكهة مبردة في ماء هذا النبع. فلما اشترينا ما أردنا غافلنا هذا الرفيق وأصر إصراره الأول على أن يؤدي ثمن الفاكهة.
ليس شيئاً ثمن القهوة ولا ثمن الفاكهة ولكن مقصد هذا الشاب كان عظيماً، ومعنى هذا العمل جليل. فهذا شاب من نابلس عرفنا مصريين فأراد أن يحيينا بما تهيأ له على الطريق، أو عرف شخصينا فبالغ في الإيناس والإكرام.
ولما دخلنا حيفا، وعلمنا أن المحطة التي نسافر عنها نسفت قبل دخولنا المدينة بقليل، وحسبنا أن السفر لا يتيسر يومنا، جاء رفيقنا هذا معه سيارته يدعونا إلى المضي معه إلى نابلس إلى أن يمكن السفر على السكة الحديدية، فشكرنا له وانتظرنا حتى تسنى لنا السفر.
وجاءنا في القطار بعض الموظفين يسألوننا عن جواز السفر ثم سلما وتحدثا إلينا وقال إنما تعللنا بطلب الجواز لنتحدث إليكما فقد رأينا في أحدكما شبهاً من أمين الجامعة العربية