وكان الشيخ حسن التقسيم للشعر حين يقرؤه، فيقف حيث ينبغي الوقوف، ويمضي حيث تتصل المعاني، فإذا سمعت الشعر وهو يقرؤه فهمته على ما فيه من غريب أو غموض أو تقديم أو تأخير أو اعتراض، فكأنه يمثله لك تمثيلا لا تحتاج بعده إلى شرح أو توقيف، وكان في صوت الشيخ معنى عجيب من الثقة والاقتدار، وفي نبراته حين ينشد الشعر معنى الفهم للذي يتلوه عليك، فلا تكاد تخطئ المعاني التي ينطوي عليها، لأنها عندئذ ممثلة لك في صوته. والصوت الإنساني هو وحده القادر على الإبانة عن المعاني الخفية المستكنة في طوايا النفوس أو في أحاديث النفوس.
ورب رجل أو امرأة تسمع كلامه أو كلامها وأنت لا تعرف عن أحدهما شيئا، فيخيل إليك وأنت تسمع انك قد نفذت على نبرات هذا الصوت إلى اعمق الأعماق المدفونة في هذه النفس الإنسانية التي تحادثك، وهذا شيء لا يكون إلا في ذوي النفوس الصادقة الصافية البريئة من حشو الحياة وسفسافها، وهذه النفوس وحدها هي القادرة على أن تجعل الصوت بمجرده لغة مبينة عن اغمض المعاني التي تعجز لغات البشر عن حملها وأدائها.
وأنت محتاج حين تسمع (لغة الصوت) أن تكون يقظ النفس حي الإحساس، نفاذاً إلى المعاني المتلفعة بالغموض، حسن التيقظ للنبرات التي تدل على ضمير اللفظ، سريع الخاطر في إدراك هذا الموج المتلاحق من الحركات المختلفة. فإذا كان الذي تسمعه كلاما يتلى أو ينشد كالشعر مثلا، وكان الذي ينشده قد عاش ساعة في معانيه حتى تلبس بها ونطق لسانه معبراً عن لسانها وعن لسان قائلها الأول - كان عليك أن تكون ليناً طيعاً سريع التبدل جرئ النفس في غمرات العواطف، حتى يتاح أن تعيش أنت نفسك في هذه المعاني ساعة تتلى عليك. وعندئذ تغشاك غمرة لذيذة تدب في غضون نفسك، فتحس كأنك تبعث بعثاً جديداً في حياة جديدة حافلة بالصور التي قلما يدركها العقل إلا مشوهة مشيأةً متخالفة التركيب، فلا يزال يجهد في تلفيق أجزائها حتى لا يبقى من أصولها الحية الصريحة الصادقة شيء البتة. فإن استطعت يوماً أن تجد في نفسك انك مستطيع أن تكون على هذه الصفة، فقد فهمت الشعر ونفذت إلى أغواره، وإن عجزت عن بيان ما فيه.
وفي الناس ناس، وقليل ما هم، قد أجادوا (لغة الصوت) إجادة بارعة، وان كانوا في أكثر الأحيان لا يدركون أنهم يحسنون منها شيئاً، وذلك لطول ما انطووا على أنفسهم حتى