غمروها في بحر النسيان. وربما سمعت أحدهم وهو يتكلم، فما يكاد ينطق حرفاً أو حرفين حتى تحس كأن كل معاني نفسه تتسرب في نفسك واضحة بينة، وانك قد عرفت منها ما يكاد يخفيه عن الناس جميعاً؛ لأنه متكبر أو قانط أو هياب جزوع. وهذا الضرب من الناس هم اشد خلق الله حرصاً على إخفاء آلامهم، وأبعدهم رغبة في الاستمتاع بالعذاب الذي يقاسونه، لأنهم يظنون انهم بذلك قد حازوا النصر على آلامهم، وعلى الناس أيضاً؛ إذ استطاعوا أن يواروا عنهم خبئ ما في نفوسهم الحزينة المعذبة. . .
لما سمعت الشيخ رحمه الله ينشد تلك الأبيات، تمثلت لعيني تلك المأساة الخالدة بين الرجل الصادق والمرأة التي احبها، وكانت تطمع أن يكون لها كما خيلت لها أوهامها، وان يأتيها بتحقيق أحلامها - أي أحلام حواء منذ كانت حواء، على اختلاف العصور وتباين الحضارات. فهذا أعرابي محب لصاحبته (اميمة) التي ذكرها في شعره، فدارت به الأيام في فيافي الحياة ملتمسا ما يحقق به أماني هذه المرأة المحبوبة، ثم عاد إليها وقد أذابت البيد منه ما أذابت بظمئها وشمسها وجوعها ومخاوفها. فلما رأته شاحباً مهزولا رثا أسوأ حالا مما عهدته، أنكرته وقد أثبتته معرفة، فجن جنونها لأنها محبة قد أخطأت في الرجل الذي تحب كل ما كانت تؤمله، وخانها ما كانت تتمثله في أحلامها من صحة وشباب وأناقة وجمال. وما أسرع ما تتنكر المرأة إذا خاب ظنها وتبددت أحلامها، وفاجأتها الحقيقة العارية بالشيء الذي يخال ما كانت تتوهم!
كانت المفاجأة صارخة في نفس اميمة، فلم تلبث أن غلبتها تلك الطبيعة المتقلبة الغدارة التي طال عهد المرأة بها، فأظهرت كأنها لا تعرفه ولم تلقه ساعة من دهر. وجرى على لسانها ذلك الحديث الذي يرويه لنا المحب، فقالت: من أي الناس أنت؟ ولم تقف عند هذا فأبدت الفزع منه لئلا يخونها ما في حنايا ضلوعها فيظهر على لسانها فعادت تقول: ومن تكن؟ ولكن أنى للمرأة الضعيفة التي زلزلت المفاجأة بنيانها أن تكتم حقيقة نفسها؟ لقد كانت منذ هنيهة تسأله سؤال الجاهل من هو ومن يكون، فإذا بها تنهار من شدة ما تعاني من اهتزاز كيانها، فتقول له مقالة الناقد الساخر، محاولة أن تبدي عن احتقارها وازدراءها لما ترى، فزوت عنه وجهها وهي تقول: لو كنت راعي ابل لكنت خليقاً أن تنكر النفوس والأعين ما ترى من حقارتك وبذاذتك، فكيف ترجو أيها المحب المغرور أن تكون حسناً في عين من