طوت يد الأقدار سفر الشباب ... وصوحت تلك الغصون الرطاب
وقد شدا طير الصبى واختفى ... متى أتى؟ يا لهفا! أين غاب؟
فما المعنى العام الذي يريد أن يبلغه لنا في هذه الشطرات؟ انه يريد أن يقول: أن شبابه قد ولى، وقد جف عودة سريعاً، وانتهى صباه عاجلاً، فما كاد يبدأ حتى انتهى.
ولكن الأمر لم يكن معنى في ذهنه، بل شعورا في نفسة، وهو لا يريد المعنى بل يريد ما وراء. ولهذا اثر أن يسلك طريقة أخرى في التعبير غير التي سلكناها، فعرض علنا صورة ليد الأقدار تطوى كتاب الشباب، وصورة بجوارها للغصون الرطاب تصوح وتجف، وهما صورتان توقعان في النفس الكآبة والأسى، وتغمرانها بالحسرة والوجوم، وتخلعان على المشهد ظلالا كابية حزينة. ثم شاء أن يشعرنا انه لم يحس بشبابه ولم يستمتع فلم يقل لنا هذا المعنى مباشرة. بل رسمة لنا صورة متحركة، فقد شدا طير الصبى واختفى، وأنه لواقف يتلفت في لهفة ويتساءل في وجيعة: متى أتى؟ متى غاب؟ ومن هنا ينقل إلينا شعوره نقلاً حياً موحياً فنكاد نتلفت معه على هذا الطائر - طائر الصبى الجميل السريع - الذي ما كاد يظهر حتى اختفى، وترك وراءه اللهفة والأسى!
طريقة السير في الموضوع أذن هي التي جعلتنا نزداد شعورا بما يخالج نفس الشاعر في الأسى والكآبة، وفي اللهفة والحسرة، دون أن يقول لنا: أنه مكتئب أس ملهوف حسير. وهذه الطريقة هنا هي نظام عرض الصور واحدة بعد الأخرى، فتخلع كل صورة ظلا، وتجتمع الظلال وتتناسق فتثير في نفوسنا انفعالا خاصا، هو الانفعال الذي عاناه الشاعر أو ما يشبه.
وبطبيعة الحال لقد اشترك في أحداث هذا الأثر كل من المعاني اللغوية للألفاظ والعبارات، والإيقاع الموسيقي للتراكيب، والصور والظلال التي يخلعها التعبير.
انتهينا إذن إلى أن العمل الأدبي يبلغ غايته وهي التأثير بتوافر عناصر الكمال في خصائص التعبير، وهي طريقة الأداء والدلالة اللغوية للألفاظ والعبارات، والإيقاع الموسيقي للكلمات والتراكيب والصور والظلال التي يخلعها التعبير، وهي زائدة على المعنى العام للتعبير
ولكن التعبير بعناصر هذه انما هو وسيلة لغاية هي إبراز التجربة الشعورية وتجليتها.