من خلال التعبير، ومن حقنا أن نحكم هذا الحكم لان التعبير المعروض علينا يصور لنا شعوراً مزوراً، والفن شعور صحيح. ولو أنه في بيته الثاني رسم لنا ظلالا تتسق مع ظلال البيت الأول، ولكان هذا دليلا على صحة الشعور وصدق تأثره بالموقف.
ويقول شاعر قديم في وصف زهرة حمراء على عود اخضر: أنها مثل (أوائل النار في أعواد كبريت)
فنحس حين نقرا البيت أن شعوره بالزهر والطبيعة كان شعوراً (من الظاهر) ولم يتصل حسه بالطبيعة أي اتصال، فاقتصر بصره على تشابه الأشكال، ومسخ الطبيعة الحية شكلاً جامداً لا حس فيه ولا شعور، ولا تعاطف بينه وبين قلب الشاعر ولا منافذ له إليه عن أي طريق.
وفي الناحية الأخرى نجد شاعراً كالبحتري يقف أمام إيوان كسري المهجور، فتجيش نفسه بانفعال صادق يغشي الجو كله بغشاء واحد، غشاء الأسى وشجون الذكرى.
فهذا الإيوان:
يُتظنَّى من الكآبة إذ يب ... دُو لعينيْ مصبّح أو ممسىّ
مُزعجاً بالفراق عن أُنس إلفٍ ... عزَّ أو مُرهقاً بتطليق عِرْس
فهو يبدي تجلداً وعليه ... كلكل من كلاكل الدهر مرسى
فهو يحس بالإيوان المهجور كئيباً حتى ليظنه من يراه مزعجا بالفراق عن أليف عزيز، أو مرهقاً بتطليق عرس، وهو يبدي التجلد، ولكن كلكل الدهر ينيخ عليه ويرسي بثقله. . . وهي صور حية موحية، تشعر بالانفعال الصادق العميق.
ونجد شاعراً كابن الرومي ينظر إلى مشهد في الطبيعة فيحسه (من الباطن) حياً، ويتجاوب معه ويتعاطف كالأحياء: ذلك حين هبت ريح الشمال:
هبت سُحَيْرا فناجى الغصن صاحبه ... موسوساً وتنادى الطير إعلانا
ورق تغنى على خضر مهدلة ... تسمو بها وتشم الأرض أحيانا
تخال طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزه عطفيه نشوانا
وهكذا يحس الغصن حيا ذا نفس يناجي صاحبه موسوسا، والطير تنادى إعلاناً، والورق تتغنى على الأفرع الخضر المهدلة، وكأنما هذه تداعبها وتؤرجحها (تسمو بها وتشم الأرض