للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جانب اللغات القومية. أما أن تزول هذه اللغات القومية جميعاً فذلك تقدير بعيد، بل جد بعيد.

والخطأ في التقدير الأخر أن نرجع بأسباب الحروب إلى تعدد اللغات، وأن نعتقد أن توحيد اللغة يزيل تلك الأسباب، أو يزيل سبباً قوياً منها أن لم يزل جميع الأسباب.

فإن الحروب التي وقعت بين أبناء اللغة الواحدة لا تقل عن الحروب التي وقعت بين أبناء اللغات المختلفة، وأمثلة ذلك ظاهرة في تواريخ الرومان واليونان والعرب والصقالب والجرمان والإنجليز، وأبناء الهند والصين.

ونحن إذا رجعنا إلى الحروب بين أبناء اللغات المتعددة لم نستطع أن نردها جميعاً إلى انقطاع التفاهم بين أمة منها وأمة، أو بين زعماء الأمة الذين يقودونها إلى الحرب وزعماء الأمم التي يحاربونها. فربما فهم كل فريق منهم ما يريده الأخر ووقعت الحرب بينهم لأنهم (يفهمون) لا لأنهم لا يفهمون.

فإذا خطر لنا أن تعميم (الاسبرانتو) يعمم الوفاق ويقضي على أسباب الشقاق فليس في حوادث الماضي ولا في حوادث الحاضر ما يعزز هذا الخاطر بدليل.

وغاية ما يرجي من تعميم لغة إضافية بين أبناء النوع الإنساني أن تتيسر بينهم المعاملات ويستفيد العارفون بتلك اللغة من سهولة قواعدها فينقلون تلك القواعد شيئاً فشيئاً إلى لغاتهم القومية التي تحتاج إلى تعديل.

أما امتناع الحروب فليس سبيله توحيد الكلام، بل توحيد البواعث التي يعبر عنها الكلام، وتوحيد هذه البواعث مستطاع في ناحية واحدة على وجه التقريب لا على وجه الشمول والإطلاق، وهذه الناحية هي ناحية المثل العليا للأخلاق والقيم والأقدار. فإذا أعجب الناس بفضيلة واحدة واشمأزوا من رذيلة واحدة وتكلموا بألف لغة فذلك ادعى إلى التقارب بينهم من لغة واحدة يتكلمونها وليس بينهم وفاق في مواطن الاستحسان والاستنكار، وليس لهم مقياس واحد يقيسون به أعمال الدول والرجال.

وآية ذلك أن اتجاه الناس إلى وحدة المقاييس الخلقية يطرد في مراحل التقدم والحضارة، ولم يكن تفرقهم في مذاهب اللغة والرأي مناقضاً لا تجاه التقدم والحضارة في عصر من العصور.

<<  <  ج:
ص:  >  >>