أريد قبل أن أسوقها أن أسوق من بعض حوادث أسلافنا بهذا الصدد عبرة وقياساً ولو لمجرد الترفيه الفني والتذكير التاريخي: جاء في (نهاية الأرب) للنويري أن النيل يبلغ تمامه إذا وفى ستة عشر ذراعاً، والذراع أربعة وعشرون إصبعاً بمقياس مصر. أي أنه بالبداهة أن زاد عن ١٧ ذراعاً مثلا كان مغرقا وأن نقص عن ١٣ ذراعاً مثلا كان مقحطاً. فما الرأي في أن الناس كانوا يتفاءلون بزيادته مهما أغرقت ويتشاءمون من أي نقصان مهما قصد واعتدل؟ وما الرأي في أن الحوادث كانت تؤيدهم دائماً تأييداً أن يكن غير منطقي إلا أنه واقعي؟ فمثلاً عندما بلغت زيادة النيل أقصاها (١٩ ذراعا) في سنتي٣٣٢هـ، ٤١٠هـ تصادف أن كانت حوادثهما سعيدة في الغالب. ففي السنة الأولى تزوج ابن الخليفة المتقي بالله ببنت ناصر الدولة بن حمدان التغلبي وتآلفت قلوب المسلمين. . . وفيها أطلق الروم إساري المسلمين. . . وفي السنة الثانية فتحت بلاد الهند وغنم المسلمون بغنائمها. . . الخ. هذا بينما عندما بلغ انخفاض النيل (١٢ ذراعاً) فقط في سنتي ٢١٥هـ، ٣٥٦هـ تصادف أن كانت حوادثهما محزنة في الغالب. ففي السنة الأولى غضب الناس على الوالي عبدويه بن جبلة وحزنوا كذلك لوفاة زبيدة بنت جعفر زوجة هارون الرشيد، وكانت أعظم نساء عصرها ديناً وأصلا وجمالا وصيانة ومعروفاً. . . وفي السنة الثانية مات السلطان معز الدولة ابن بويه، وقبض على الملك الناصر وولده أبو تغلب ومات الإمام العلامة أبو الفرج الأصفهاني مصنف كتاب الأغاني. . . الخ.
مصادفات. ولكن أعجب ما فيها دلالاتها المطردة في سني الرخاء والجدب على السواء.
فإذا تركنا التكهنات إلى الحقائق. وجدنا بالاستقراء والاستقصاء أن وادي النيل لم ينكب نكبة واحدة بسبب الفيضان أيا كان طغيانه في حين أن المجاعات الفظيعة في مصر كالمجاعة التي حدثت في آخر حكم الأسرة السادسة الفرعونية، والمجاعة التي أيام يوسف الصديق، والمجاعة التي حدثت في العهد الفاطمي وعرفت باسم (الشدة المستنصرية)، والمجاعة التي حدثت في عصر المماليك زمن السلطان كتبغا. . . إلى آخر المجاعات التي روعت الوادي واجتاحته في مختلف العهود تدل دلالة قاطعة على أن سببها الوحيد المباشر هو انخفاض النيل على تفاوت. وأظن أني لست في حاجة إلى وصف حالة البلاد وسكانها أثناء هذه المجاعات فذلك مذكور مشهور في كتب الأدب والتاريخ. ومن قبيل التمثيل أذكر