أبنائهم ليحظوا عنده بالقراءة أو الكتابة له وليقوموا بذلك ألسنتهم وليفيدوا عرفانا وبيانا.
ولكنه كان لا يضمن مجيء هؤلاء إليه كل حين، وعلى ذلك فقد عول على تعليم بناته النطق باللغات المختلفة وهن لا يفهمن شيئاً مما تتحرك به ألسنتهن وبذل في ذلك جهداً كبيراً وهو على حاله من المرض والعمى؛ وأنه لعجب أن يحرص هذا الحرص كله على المعرفة فلا يقعد عن وسيلة مهما بلغ من عسرها وأنها لحالة تملأ النفس أسى على ما مسه من ضر بقد ما تملؤها إعجاباً بعزيمته التي لا تعرف كلالا ولا سأماً. ولا ريب أنه كان يستشعر كثيراً من المرارة والحزن في تلك اللحظات التي لا يجد فيها من يقرأ له أو يكتب ما نظم من الشعر، ولم يك له عزاء في هذا البلاء إلا استغراقه في قصيدته الكبرى وإقباله عليها بكل جوارحه وارتياح نفسه إلى أن يحقق أملا طالما طاف بخيالة وأثلج فؤاده وأبهج نفسه.
وكان يدعو بناته ليقرأن له ما يطلب من الكتب اللاتينية والعبرية والإغريقية والفرنسية والطليانية والأسبانية، فينطقن نطقاً آلياً بعبارات لا يفهمن منها بالضرورة شيئاً؛ وكنت يضقن بهذا ويتبرمن به ويتضجرن منه، وحق لهن أن يكرهن هذا العمل كرهاً شديداً، فإذا دعاهن أبوهن إليه اقبلن متثاقلات متكرهات، ثم اعتذرت كبراهن بما في لسانها من حصر لا تحسن معه النطق فأعفاها أبوها من القراءة وجعلها للكتابة فوقع عبئ القراءة على الوسطى فازدادت بذلك ضيقاً وضجراً.
وما زال يشيد ضجر ماري وهي الوسطى حتى أصبح تمرداً وعصيانا فصارت تهمل ما يطلب إليها أبوها متغافلة أو متناسية. وكانت تعرض عنه أحيانا ساخطة ناقمة؛ وصبرت دبرا وهي الصغرى بعض الصبر، ولكنها ما لبثت أن تكرهت لأبيها وخشنت عليه وما برحت تشكو لأختيها أنه يدعوها في أي ساعة من ساعات الليل فيوقظها وهي مستغرقة في نومها لتكتب بضعة أسطر نظمها.
وتفاقم الأمر فكره البنات أباهن حتى ما يطقنه؛ قالت الوسطى مرة وقد سمعت أنه يزمع أن يتزوج (ليس في الحديث عن زواجه ما يعد جديداً من الأنباء أما أن أسمع بموته ففي ذلك ما يؤبه له).
وتآمر البنات مع إحدى الخدم على غشه فيما يشتري ويبيع مما يحتاج المنزل إليه، وفعلن