أقبح من ذلك فأعن الخدم على بيع كتبه بغير علمه فإذا علم بشيء من هذا مس الحزن قلبه مساً شديداً ولكنه يكظم غيظه ويكتم أمره عن الصحب والجيرة مخافة العار، وكم كان وقع ذلك أليماً على نفس كبيرة مثل نفسه، وكم كان يشعره ذلك بما آل إليه حاله من استكانة بعد عزة، ويذكره بهذا الضر الذي أحاطه بالظلمة فجعل من بناته عدوات له.
ولكن روحه قوية على الرغم من هذا كله، وإقباله على قصيدته واستشرافه لآفاقها الفسيحة العليا يدفع عن نفسه القنوط إذ يرفعها من عالم حقير إلى ملكوت لا يدرك جلاله وعظمته إلا عقل مثل عقله وروح مثل روحه. ولقد كان له في الشعر أعظم العزاء وأطيبه وأن كان يعمد أحيانا إلى قيثارته فتختلج أوتارها بين يديه بلحن يسرى به عن نفسه أو يهيئ به جواً ملائماً لما تجيش به نفسه من شعر.
عود إلى الشعر:
أنقطع ملتن عن الشعر منذ سنة١٦٤١ كما سلف القول، ولم يكد يعود إليه سنة ١٦٥٨ حتى أنشغل عنه بما كتب في عهد ريتشارد وقبيل عودة الملكية. ثم أقبل عليه إقبالاً غير منقطع منذ أن نجا في أواخرسنة١٦٦٠؛ ومن ذلك نرى أنه أنصرف عن الشعر قرابة عشرين سنة وهي مدة طويلة لم يقضها في تأمل وهدوء وتهيؤ على نحو ما كان يفعل في هورتون، وأنما كانت حياته فيها كما رأينا مليئة بالأحداث حافلة بالخصومات، ولكنه أفاد خبرة عظيمة وتم نضجه فأصبح كالشجرة المحملة بالثمرات تجود بأطيبها لأقل هزة. . .
ولم تخل هذه السنوات العشرين من الشعر خلواً تاماً فقد نظم الشاعر أثناءها بعض المقطوعات في مناسبات مختلفة، وليست هذه المقطوعات من نفاية الشعر كما قد يخيل إلى المرء فأن لها لشأناً جليلا في ذاتها ومنزلة سامية في تاريخ هذا النوع الذي نسميه المقطوعات، ولذلك نرى أنه يجدر بنا أن نتكلم عنها ونبين مبلغ ما لها من خطر في الشعر الإنجليزي قبل أن نتكلم عن الفردوس المفقود وما جاء بعدها.
جاء ملتن من هذه المقطوعات بما لم ينته فيه كثير من أفذاذ هذا الضرب من النظم منهاه، ولقد قل فيه أكفاؤه وذهب له صيت منه بالقياس إلى شكسبير أن لم يك يبرعة في أكثر من ناحية من نواحيه. ولقد اصبح فيه مثالا لمن جاء بعده فاحتذى حذوه واعجب به ورد ثورث وكيتس وغيرهما من شعراء القرن التاسع عشر.