للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فيه: (الله أكبر، الله أكبر، لا اله إلا الله).

وسمع: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فرأى فيها مجد الآخرة بالعبادة، ومجد الدنيا بالنجاح، وصبت القوة والعزم في أعصابه فعدل الموت، واقبل يسعى فيها جاء له، ولكنه لم يجرؤ (على هذا كله) أن يعود إلى الدار، وحدثه قلبه إن الفتاة قد ماتت، فمضى على وجهه تقذفه قرية فتتلقاه قرية، يضيفه الناس، وقد كان في الناس سلائق العرب وآداب الإسلام: يضيفون الغريب لا يسألونه من هو ولا يبتغون منه أجرا ولا شكرا، وجعل يطوي الأرض والأرض تطوى صحائف عمره، حتى حطت به النوى في خراسان.

ولقي من عرفه فيها ومد إليه يده مسعدا ومعينا فعاد إلى تجارته. . . وجعل يفكر لما استقر به المنزل في داره وامرأته والشك يخز في قلبه، ويكتب الكتب يسال عنه وعنها ويستنجد، ويلح ويتوسل حتى كتب ستة وستين كتابا، ولم يرجع إليه جواب فأيقن إنها قد ماتت. . .

وأثرى وامتلأت يده بالذهب ولكن قلبه ظل خاليا من الحب. وما كان يوسع في الأسى مكانا لحب جديد، فكان كلما احتواه العشية منزله، واغلق عليه بابه جفا عالم الناس وراحت روحه تسبح في عالمه هو، عالم ذكرياته وماضيه الذي احبه وافتقده ولم يجد منه بديلا، فيشعر بحرارة تلك القبل ويسمع وسوستها ويلمس دفء ذلك العناق، ويستروح نسيم تلك الدار التي كانت جنة وارفة الظلال، فيها الروح والريحان وفيها من كل فاكهة زوجان، فصيرها الحب قاعا صفصفا. . . ولكن تلك الخربة احب إليه من هذا القصر الذي يعيش فيه اليوم وحيدا لا يؤنسه فيه إلا الذهب. . .

وتصرمت السنون، وتتابعت خالية فارغة حتى أقامت بينه وبين ليلة المخاض حاجزا من أيام سمكه ثمان وعشرون سنة، وهبت على عمره رياح الخريف، فذوى غصنه، وكاد يدركه الجفاف، فأفزعه أن يموت بعيدا عن بغداد وداره التي ثوت فيها الحبيبة، فباع كل ما يملك بعشرين ألف دينار من الذهب واشترى قماشا وبضاعة وحملها إلى بغداد، وسار في قافلة له ضخمة يؤم دار الوطن. . . ولم يكن له من أمل إلا أن يقيم بهذا المال قبرا ضخما للحبيبة ويجعل فيه له مكانا، ولكن الدهر لك يبلغه حتى هذا الأمل، فقد خرج على القافلة اللصوص. فنهبوها، وقتلوا من فيها، ولم يتركوا منها أحدا. . .

ونهض من بين الموتى، وسار على رجليه وقد تبلد ذهنه من عظم الفاجعة حتى ما يقدر

<<  <  ج:
ص:  >  >>