على الحزن. ومشى حتى حاذى النهر، وجعل يمر على مغارس النخيل، ومشارع المياه، ومنابت الورد والفل، وهو سارد ساهم، كأنما يمشي في حلم، قد ماتت في نفسه كل رغبة إلا الرغبة في الموت. . . وماذا بقى له في الحياة بعد ما فقد الحب وفقد المال؟ ولكنه لم يشأ أن يموت إلا في داره ولم يرد أن يظم عظامه إلا الثرى الذي ضم أعظم حبيبته، حتى يجاورها في الموت كما جاورها في الحياة، وتحامل على نفسه وقام يجر رجليه جرا، وكلما دنا من بغداد وأحس ريحها وانتعش واشتد، وعاش بذكريات الحب الذي ذهب ولم يبق إلى عودته سبيل، وآنسه أن يرى مرة ثانية الديار التي شهدت صور هذا الحب، ولكنه أعيا أخيرا وسقط على الشاطئ ولك يعد يستطيع الحراك. . .
وجعل يفكر تفكيرا مبهما ملتاثا يقطعه الجوع الذي يفرى أمعاءه، والتعب الذي يهد عظامه، فيرى انه كان في حلم وصحا منه. . . الدنيا كلها حلم كاذب: الحب، والمال، والصحة، والسعادة، والمجد. . . لا يخلد شيء من ذلك ولا يبقى. . . لا يبقى منه إلا ذكرى تبعث ألما، وتثير حسرة، وتحرق القلب، وتمنى أن لو كان خلق فقيرا منفردا، ما عرف من لذة الألفة، ولا متعة الغنى، وعادته فكرة الموت التي كانت مرت بذهنه منذ ثمان وعشرين سنة، ولكن دينه منعه أن يختم حياته بهذه الخاتمة البغيضة وان يجمع على نفسه شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، وهبت عليه نفحة من نفحات الأيمان فاستراح اليها، وذكر انه استودع فتاته الله، ولا تضيع عند الله الودائع، وان وراء هذه الأحداث حكمة بالغة، وقدرا حكيما. فاطمأن إلى حكمة الله وسلم أمره إليه ووجد لهذا الاطمئنان راحة وشبعا. . .
وسمع صوت بوق يرعد على حاشية الأفق فنظر فإذا (زلال) ضخم قد اقبل عليه، فلما حاذاه أشار ونادى، وسال صاحبه أن يحمله إلى بغداد، وكان فيه أمير كبير، ولكن (الديمقراطية) كانت شعار العرب، وكانت سليقة فيهم، لا يمنع الأمير مجده أن يقف لفقير سائل ويحمله معه فادخله الزلال وأطعمه وخلع عليه. ولم يسائله عن خبره، لان النوم قد غلب عليه فهجع كالقتيل قبل أن يسال وقبل أن يجيب.
ولما أفاق كان المساء قد حل، وكانت بغداد قد بدت، وسربت الزوارق السفن على سطح دجلة الفاتن تنشد لهوا وتبتغي لذة، وتملأ الضفتين نغما سائغا، وحبا ومجدا؛ وترنحت القصور طربا، وانتشت الرياض آنسا، وتعانق النخيل وتشاكى الغرام. وتراقصت الأمواه