للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من دجلة وتناجت بالحب، وسكرت السفن وهامت، وسدرت بغداد في نشوة الظفر، وكانت بغداد هي الدنيا وكانت دارة الخلافة، وكانت عاصمة الأرض، وكانت منبع العلم والفن، ومثابة الغنى والترف. وكان فيها الصلاح وفيها الفجور، وفيها الخيرات وفيها الشرور، وفيها من كل شيء. . . وكذلك تكون الدنيا!

وكان دجلة يسر مزهوا طربا. فقد بدأ سيره منذ الأزل، ورأى الحكومات تقوم وتقعد حتى مل قيامها وقعودها، وشهد من بأساء الحياة ونعيمها ما زهده في نعيمها وبؤسها، ورأى الأنام حتى كره مرأى الأنام، ولكنه لم يرى أياما احلى، ولا مجدا أبقى، ولا ناسا أنقى واتقى، من تلك الأيام وناسها. . .

وجاز الزلال بتلك السفن والزوارق الحالمة السكرى كأنه البطل القوي يمر بالحسان في يوم عرس، فاجتمع على الصفحة احب والحرب، والعز والهوى، هذا يمثله زلال القائد، وتلك تمثلها زوارق العشاق، وكان يمضي إلى غايته مسرعا كأنه يسابق شعاع الشمس إلى الأفق الزاهي، وكان هو أيضاً شعاعه من الشمس التي أضاءت الدنيا في هاتيك الأيام، فأشرقت على القلوب عاطفة وجمالا، وعلى العقول علما وكمالا، وعلى الإسلام عظما وجلالا، وعلى الناس كلهم حضارة وتمدنا وسلاما وأمنا، وضوأت لهم الطريق المجهول، وشقت لهم السبيل الموصلة إلى تحقيق المثل العليا في المجتمع البشري، تلك هي شمس بني العباس إذ كان بنو العباس سادة الأرض.

وأنزله الزلال على الجسر، حيث قام تلك الليلة، فأعاده الجسر إلى ماضيه، فأحس بان هذه السنين كلها لحظة واحدة، وأنها صفحة قد سقطت من سفر حياته، فاتصل ما قبلها بما بعدها، ورأى الناس من حوله فهم بان يسألهم درهما يشتري به عسلا ودقيقا وشريجا لامرأته التي أخذها المخاض، وأسرع يريد أن يدركها قبل أن يشتد بها الألم، ثم انتبه فرأى هذا الحجاب الصفيق من الزمان يقوم بينه وبينها، ثمان وعشرون سنة ليست يوما ولا يومين. . . دهر طويل ولد ناس ومات ناس، عمر كامل. . . فتهافتت وخمدت هذه الشرارة من الأمل التي أضاءت في نفسه، وسار محطما مكدودا، يبصر الوجوه من حوله فيراها غريبة عنه لا يعرفها، ويرى المسالك والدروب فيفتش عن ذكرياته فيها فلا يجدها. . . حتى بلغ الدار ونظر فإذا الخربة التي خلفت فيها الحبيبة قد صارت دارا فخمة على

<<  <  ج:
ص:  >  >>