بابها الجند والشاكرية فوقف ينظر إليها من بعيد. . . هذه داره التي رجع إليها ليتخذ لنفسه من ثراها قبرا قد أنكرته وأعرضت عنه. لقد عاد غريبا في بيته. منكرا في بلده. انه ميت يمشي بين الأحياء. لقد بحث عن اثر واحد من دنياه التي كان يألفها، فإذا كل شيء قد تبدل، فلا الوجوه بالوجوه، ولا الأمكنة هي الأمكنة! فيا ويح الزمان كيف صنع ذلك كله! هذا الجبار المخيف الذي يفعل الأفاعيل، لا يحس به أحد ولا يبصره ولا يلمسه بيده. . . ثم استغفر الله وتاب إليه، انه هو الفاعل المدبر، فلا الزمان ولا الأحداث بقادرة على شيء، انه هو وحده الذي يصرف الأكوان.
وولى ليعود فيضرب في الأرض حتى يموت، فما يبالي الآن أين يدركه الموت بعد ان حرم آخر أمانيه، وهي أن يواريه الثرى الذي وارى جسد الحبيبة، ولم تسل من عينيه دمعة، ولم يتحرك لسانه بكلمة وداع، ولك يفكر في شيء فقد توارت الآلام على قلبه حتى صار هو كتلة من الألم جامدة تسمى قلبا، وتتابعت عليه المصائب حتى صارت حياته كله مصيبة. . . ويئس من السعادة حتى ما عاد يفكر فيها، أو يؤلمه فقدها، وتلفت ليودع المكان الذي اصطفاه من دون الأمكنة، وأودعه اعز شيء عليه: حبيبته وذكرياته، ويشمله بنظرة فإذا هو يرى دكان بقال كان يعرفه لا تزال قائمة على العهد بها، كما يقوم الطل البالي في المدينة العامرة، فأسرع إليها. . .
وكان فيها شاب حدث علم منه إن أباه البقال مات من عشرين سنة، وان الدار لابن داية أمير المؤمنين المأمون وصاحب بيت ماله، وان لهذا الرجل قصة عجبا، فقد كان أبوه من سراة التجار، فاشترى جارية أولع بها وعكف عليها حتى افتقر، وجاءها المخاض فذهب يطلب لها شيئا فلم يرجع، وأسعفها البقال أبو الفتى، وولد للرشيد مولود فطلبت له المراضع فلم يقبل ثدي واحدة منهم فدل على الجارية فقبل ثديها، وصارت ظئره وكان المولود هو أمير المؤمنين المأمون.
ويسمع الرجل القصة فيحس إن الأرض تدور به، فيمر بآلاف الصور والألوان، والشكوك والأماني، ثم يسأله: وأين أم الولد؟ ويحسب إن هذه اللحظة التي انتظر فيها الجواب، قد طالت حتى غدت دهرا، وانه كالقائم ليسمع الحكم عليه بالبراءة أو القتل. فيقول الفتى: إنها باقية تغدو إلى دار الخليفة أياما وتكون مع ابنها أياما، ولكنها لا تزال حزينة لم تمسح