وكان بطل قصتنا بحكم عمله ككاتب عرائض خبيرا بضروب الدجل والمخاتلة. فكان يستقبل سماسرة العرائس، ويكرم وفادتهم ويساومهم، ويستفهم عن الأسر القديمة الغنية، ويجمع عنها المعلومات المفصلة إلى أن قرر راية على خطبة بنت (. . .) باشا، وهي تنحدر من أسرة تركية عريقة استوطنت دمشق منذ أيام عبد الحميد، ثم أثرت، واستعربت.
وبعد مداولات مع أهل العروس، وهدايا متواصلة حملها جميل بك لابنة الباشا، وحديث مطول ألقاه على مسامعهم عن أملاكه في فلسطين في عين كارم والخليل. . . وبياراته في يافا واللد. . . وعن مكتبه الرئيسي في القدس، وفروعه المنتشرة في جميع أنحاء البلاد المقدسة. . . اقتنعت أسرة الباشا بمكانة جميل بك السامية، وكان له شريك في القدس يرسل إليه برقيات عن سير (القضايا) في دور المحاكم!. . .
وهكذا تم عقد قران ابنة الباشا على جميل بك العكرماوي في حفلة اقتصرت فيها الدعوة على الأقارب والأصدقاء، ثم رحل العروسان إلى لبنان ليقضيا شهر العسل في فندق (القاصوف) في ضهور الشوير. . . وطالما كان يحدث العريس عروسه وهما في مصيفهما الجميل هذا، عن أشهر مرافعاته في المحاكم محركا يديه، وملوحا بأكمام (الروب. . . دي شامبر)، ومتنقلا في الغرفة ذهابا وايابا، وكانت عروسه تستمع إلى طربة، وهي مستلقية على مقعد وثير طويل وقد عقدت يديها تحت رأسها.
وقالت له مرة: حدثتني كثيرا عن قضاياك. . . لكنك لم تحدثني قط عن حياتنا الزوجية في بلدك وكيف ستكون؟
قال: دعي الحديث عن حياتنا المقبلة، فقد صرنا الآن روحين في جسم واحد، أو جسمين تختلج فيها روح واحدة!. . . وثقي بأنني سأوفر لك جميع أسباب الرفاهية والسعادة في منزلي الجديد الذي ابنيه في حي القطمون في القدس. والآن أرجوك ترك هذا الموضوع الجاف، وهيا بنا إلى البستان لنأكل ما طاب لنا من الفاكهة.
وبعد انقضاء شهر العسل سافر العروسان إلى القدس، ونزلا في بيت حقير شبه قذر يعق في محلة (وادي الجوز). . . ولما وطئت قدما ابنة الباشا هذا البيت ارتدت إلى الخلف مذعورة وقالت: ما هذا الذي أراه يا ابن عمي؟!