يفني السنين في اكتشاف علمي وهذا الأمر ليس في متناول غير العلماء المتخصصين، والثاني كفاح رجال الأعمال لتكوين الأموال مما صبغ الحياة كلها بالمادية البذيئة التي لا تعرف الرحمة. أما هناك، هناك في الشرق البعيد حيث ألّف بين الناس البؤس المشترك والشقاء العميم، حيث وحّد بين قلوب الملايين الغفيرة الإيمان القوي والقلق العام والحساسية المرهفة؛ هناك الحقل اليانع لأصحاب المبادئ السامية والمثل العليا الجريئة التي سرعان ما تتشبث بها الجماهير وتتفانى في خدمتها بمجرد إحساسها بأنها طريق الخلاص، واقفة منها موقف المؤمن بدين جديد جاء ليغير حياته ويبعثه بعثاً جديداً.
ولقد كانت في الحرب الحاضرة ومحنة فرنسا مادة غزيرة أمام أندريه مالرو ولدراسة الشخصية الإنسانية في ظروف جديدة وأماكن غير الأماكن التي وقعت فيها حوادث قصصه السابقة. فكتب كتابه الأخير (أشجار التنبرج) وهو كما ذكرنا الجزء الأول من قصة طويلة في ثلاثة أجزاء بعنوان (الصراع مع الملاك).
و (أشجار التنبرج) عبارة عن ثلاثة أقسام: القسم الأول تقع حوادثه في يونية عام ١٩٤٠ في أحد السجون في بلدة شانز بفرنسا. وفي القسم الثاني يصف الكاتب حياة والده حتى الحرب العالمية الأولى فنعرف منه أن والده ألزاسي المولد بقي في الألزاس حتى عام ١٨٧٠ ثم عين مدرساً في جامعة استانبول اختير بعد ذلك مستشاراً للجنرال أنور باشا، ثم أُرسل في مهمة إلى أفغانستان وبعد سنين طويلة في تلك البلاد الشرقية يعود إلى وطنه الألزاس حيث يموت والده (جدّ الكاتب) بعد وصوله بفترة قصيرة. وفي الألزاس يشترك في (أحاديث التنبرج) وهي أحاديث تدور على موضوعات معينة في كنيسة قديمة حيث يجتمع تحت زعامة عمه (والتر) نخبة من المثقفين والعلماء والأساتذة من مختلف البلدان، وفي عام ١٩١٥ تقوده الحرب إلى جبهة الفستولا، حيث يشترك في هجوم بمساعدة الغازات السامة. وهناك يترك المؤلف والده مغشياً عليه في ساحة القتال؛ منهك القوى أثر المناظر الوحشية التي شاهدها ومن تأثير الغاز. يتركه ليعود إلى نفسه، وعندئذ يبدأ القسم الثالث من القصة فنرى أنفسنا في عام ١٩٣٩ نصحب المؤلف في سيارته المدرعة حيث يواجه مع رفاقه الموت الحاصد الذي يخرجون منه بأعجوبة فينظرون إلى العالم تحت ضوء فجر جديد لامع، وبعيون جديدة، عيون نسيت الماضي ولم تعد تعرف غير الحاضر.