الذي تهدأ عنده ثورة النفوس البشرية ويخمد جموحها. كانت العزاء والملاذ الأخير لكل منكوب (إذ كيف يمكن لمصاب بالبرَص - كما يقول - أن يستسلم لمصيره ولا يسمم الآبار التي يقترب منها إذا لم يَفِض قلبه بالأمل في حياة ثانية حيث تعوّضه العدالة عن مصيبته وينال النعيم الأزلي؟).
فجارين يريد أن يعيش واقعياً بكل ما في هذه الكلمة من معان. إنه يريد أن يحقق الجنة الأرضية لأنه مثالي يؤمن بالمثل العليا ويوقن بإمكان تحقيقها بالجهاد والتضحية. إنه يستهين بالمخاطر ويواجه الموت إلى جانب الأحرار الصينيين في ثورة كتنفرن راضياً مطمئناً. ومثل شخصية جارين نرى شخصية (كيو) وشخصية الطالب (تشن) في قصة (الطبيعة الإنسانية). هذين الشابين الصينيين اللذين آمنا إيمان المؤمن بدينه بعدالة قضية الصين في جهادها التحريري. هذه الشخصيات الثلاث نراها جميعاً تلقي بنفسها في ذلك المحيط الثوري بقوة عنيفة ودافع خفي مستعذبين كل تضحية؛ لأن المثل الأعلى عندهم دين كسائر الأديان، والدين في حاجة إلى شهداء. ومن ذلك نرى أن أندريه مالرو لا يعتقد أن هناك فرقاً بين هؤلاء المثاليين وأولئك المتدينين الأوائل الذين كانوا يحطمون الأوثان وأقصى آمالهم في الحياة أن يتعذبوا من أجل عقيدتهم الدينية. فتصوير هذا النوع الشائع من الشبان المثاليين المتحمسين هو أهم ما يطبع كتب مالرو بطابع القوة والعظمة.
وللقارئ أن يتساءل لم اختار مالرو حوادث قصته (الفاتحون) و (الطبيعة الإنسانية) في الصين النائية كما ذكرنا. أليس في بلاد الغرب مجال لظهور هذه الشخصيات؟ ألم يجد في غير الصين مجالا لظهور الأبطال وأعمال البطولة؟ إن مالرو العالمي التفكير يتبع النهضات القومية أينما ذهبت. فكما اشترك بنفسه في كفاح الصينيين القومي مما أوحى إليه كتابة قصتيه هاتين، كذلك حارب في صفوف الجمهوريين الأسبان كما عرفنا، وكتب عن الجمهورية الشابة قبل أن تتئدها الرجعية الفاشية كتابه المشهور (الأمل)(١٩٥٧). لقد وجد مالرو في هذه البلاد الحية بحركاتها الشعبية مجالا خصباً لذلك النوع من الأبطال الذين اختارهم لقصصه. فهو يرى أن العالم الغربي أصبحت تسوده للأسف الوطنية المتعصبة. فالحدود مغلقة، والمادية تطغي على كل شيء، والفردية يلمسها المرء أينما حلّ. فأوروبا الحاضرة في نظر مالرو لم يعد فيها إلا نوعان من الكفاح: الأول كفاح العالِم الذي