للعقائد ولا مراعاة لسنن الأديان، بل ولا اعتبار للأسس التي قامت عليها هذه المدنية التي أوشكت أن تنهار دعائمها بعد أن طفحت القلوب بالشك في قيمتها. الآن، ما هو موقف (الإنسان) و (النفس الإنسانية)؟ ما هو موقف الفرد الأوروبي أو غير الأوروبي إذا كان من أبناء المدنية الحديثة المتأثرين بتياراتها المتحررين من كل قيد تقليدي؟ يرى مالرو أن الإنسان الجديد يقف أمام أمرين لا ثالث لهما: فإما الاستسلام للأمر الواقع والتردي في هذه الفوضى الغاشمة التي لا ضابط لها ولا حياد فيها؛ وإما التعلق بمثل أعلى لخدمة نفسه وخدمة المجتمع البشرى كما يتعلق الغريق المحتضر بقارب النجاة.
أما الأمر الأول فهو طريق الضعفاء فضلا عن أنه لا يتضمن جمال الإحساس بالقيام بعمل سام جميل. وأما الأمر الثاني فهو الطريق السويّ الطبيعي لذوي النفوس العالية، والإنسانية الواسعة، وهو الطريق الذي اختاره أندريه مالرو لأبطاله مصوراً حياتهم وطريقة تفكيرهم، وضروب تضحيتهم وسمو إيمانهم. فنرى (جارين) في قصة (الفاتحون) و (كيو) في قصة (الطبيعة الإنسانية) شخصيتين من تلك الشخصيات التي لا تستطيع الخضوع لحياة لا غرض لها إلا قضاء أيام متشابهة مملة. فهما يعانيان ذلك المرض الذي لا يختلف كثيراً عن المرض الذي يسمونه مرض القرن والذي - كما يرى مالرو - هو بالنسبة لفئة من الناس مرض جميع القرون. . . إن هذه الدنيا لا تكفيهم. إنها لا قيمة لها إذا لم تمنحهم الفرصة لانفجار كل نواحي الكفاح والنشاط فيهم. إن حياتهم لا مبرر لها ولا قيمة إذا لم يحققوا للإنسانية أفكاراً سامية.
ولما كانت كل مصائب المجتمع الحاضر مبعثها الظلم الاجتماعي وعلاجها إيجاد مجتمع بشري تسوده العدالة الاجتماعية والإخاء الإنساني. لهذا تعمد مالرو اختيار أبطاله من رجال المثل العليا في السياسة والاجتماع. فإصلاح المجتمع في نظره وتسييره في الطريق الذي تفرضه روح العصر هو الأساس الذي بغيره لا يرجى إصلاح في العلم أو الفن أو الأدب أو الأخلاق أو غيرها.
كان (جارين) ثائراً على كل شيء. كان ثائراً على المجتمع، كان ثائراً على الغرب وماديته فهجره إلى الصين حيث الملايين الحاشدة ينشر بينها تعاليمه الاشتراكية ويبين لها حقها في الحياة. كان ثائراً على الدين لأن الأديان في نظره كانت دائماً على مر القرون هي الميناء