للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قال إن الحق لا يسقط بتقادم الزمان وإنما يمنع الحاكم من سماع الدعوى. فلم يكتف الشارع الإسلامي بتأمين مصلحة الدنيا بل استهدف مصلحة الآخرة أيضاً، في حين أن الشارع الروماني اتخذ الجانب الآخر وقال أن الحق المتروك يسقط والساقط لا يعود. ولم يكترث بأثقال الذمة وعقاب الآخرة. لذلك ترى أنه ليس من السلامة القول بأن أحد هذين الشرعين مأخوذ عن الآخر. وإذا طالعت أقوال فقهاء الأمتين في إحدى المسائل تجد كل فئة تعلل اجتهادها بطريقتها الخاصة مراعية المبادئ المتقدم ذكرها، غير متأثرة بالأساليب وطرق التعليل التي سلكتها الفئة الأخرى.

وقال الأستاذ كذلك: من أين لأمير من أمراء القرون الوسطى غير مأخوذ بالعاطفة الدينية وغير حريص على سلامة أخرته أن يجعل رائده تقوى الله في حروبه وغزواته، ويحرص على كل ما ينيله ثواب الخلود والمرتبة العالية في الجنة بالتزام العدل والرحمة والبعد عما يشوب طهارة النفس وفضائل الأخلاق؟ ذلك ما نراه شائعاً بين أمراء المسلمين وقوادهم، وأمثلته كثيرة.

ومن أحسن ما نذكره في هذا القبيل أن عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد: (ونح منازل جنودك عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يرزأ أحد من أهلها شيئا ً، فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها فما صبروا لكم ففوا لهم). ففي هذا الأمر الصريح لا يكتفي أمير المؤمنين ابن الخطاب بالتوصية الحسنة بأهل الصلح والذمة، بل تجاوز في الرفق بهم العهود المقطوعة لهم، وفيها أنهم يضيفون عسكر المسلمين ثلاثة أيام، أما هو فأمر بتنحية العسكر عن قراهم حتى لا يصابوا بأذى ولا معرة. وفي هذه الفقرة بيان يدلي به هذا الإمام العظيم عن ثقل وطأة الفاتحين على أهل البلاد، ومرارة نفس الغالب في عدم الاعتداء على مغلوبه، فقال لقومه: إنكم ابتليتم بالوفاء بحرمة أهل الصلح وذمتهم، كما ابتلوا أيضاً بالصبر على تغلبكم وتحكمكم بهم في بلادهم فعليهم الصبر وعليكم الوفاء.

وقال أيضاً: في الإسلام كثير من الأمور التي تستوقف نظر المطلع فيعجب عندها من فكرة العدل المجرد الراسخة في نفوس زعماء العرب وحرصهم على النهج القويم والصراط المستقيم في أفعالهم وصلاتهم مع محاربيهم ومعاهديهم، من ذلك الأصول التي وضعت للنبذ

<<  <  ج:
ص:  >  >>