ولولا هذا القدر المشترك لانقطعت الصلة بيننا وبين القديم فلا نحس له جمالا، ولا نتذوق له طعما.
وهذا النوع من العناصر لا يقبل تجديداً ولا تغييرا، إذ بتغييره تضيع اللغة وتفقد مشخصاتها، فلو قلبنا تركيب الجمل رأساً على عقب، أو لم نراع الوضع الذي تسير على نهجه اللغة، لكان لنا من ذلك لغة جديدة، ليس بينها وبين الأولى نسب.
وهناك نوع آخر من العناصر في اللغة والأدب، خاضع للتغيير، قابل للتشكل، يتأثر بالبيئة وبدرجة الحضارة، وبالأساليب السياسية، وبالحياة الاجتماعية، وغير ذلك.
وفي هذا النوع يكون التغيير والتجديد. ومن أجل هذا التغيير كانت الفروق واضحة بين الشعر العباسي والشعر الجاهلي، في التعبير والتشبيه والأسلوب والموضوع ونحو ذلك. ومن أجل هذا أمكن الأديب إذا عرض عليه نوع من الأدب، أن يعرف عصره ولو لم يعرف قائله؛ لأنه يستطيع أن يتبين خصائص كل عصر ومميزاته، ويطبق ذلك على ما يعرض عليه من شعر أو نثر. ومن أجل هذا أيضاً ترى الفرق واضحاً بين لغة الأدباء الآن وبين لغتهم منذ عشرين عاماً. وتجد الفرق واضحاً بين لغة الجرائد المصرية اليوم، وبين لغة الجرائد السورية والعراقية، وإن كانت كلها تصدر باللغة العربية، وتشترك في العناصر الأساسية.
وهذا التغيير أو التجديد في الأدب وتأثره بما حوله خضع له الأدب العربي وكل أدب على الرغم من المحافظين والجامدين؛ فقد رأينا في العصر العباسي مدرسة وعلى رأسها الأصمعي لا تحب إلا الشعر الجاهلي، ولا تحب من المحدثين إلا من قلّد القدماء. ورأينا من كان يُنْشدُ الشعر فيستحسنه، فإذا قيل له انه محدث استهجنه واتهم ذوقه؛ ولكن هذه المدرسة أخضعها الزمن لحكمه، ونشأ أدب عباسي جديد، احتفظ بالعناصر الأساسية للأدب العربي ولم يأبه لما عداها وكان الفرق كبيراً بين الأدبين كما قال الجاحظ: كم من الفرق بين قول امرئ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً
وقول علي بن الجهم:
فبتنا جميعاً لو تُراق زجاجة ... من الماء فيما بيننا لم تَسَرَّبِ