وجاء المتنبي وعلى أثره المعري فجددا في الشعر من ناحية الأسلوب ومن ناحية المعاني، فأنكر عليهما أدباء عصرهما نزعتهما الجديدة، حتى رأينا من بين العلماء من أبوا أن يعدوهما في الشعراء. ثم حكم الزمن على هؤلاء العلماء ووضع المتنبي والمعري في مكانهما اللائق بهما.
وكان هذا هو الشأن في كل عصر، حتى عصرنا الحديث، نشأ قوم تأثروا بالأدب العربي القديم وحذوا حذوه، ولم يخرجوا قيد شعرة عنه. فلو ركبوا الطائرة قالوا ركبنا الهودج والبعير، وإذا استهلكت البنزين قالوا رعت السَّعدان، وسموا الجنيهات الإنجليزية وعملة الورق دراهم ودنانير، وإذا لم يكن لهم من الأمر شيء قالوا لا ناقة لنا ولا جمل، إلى كثير من أمثال ذلك.
وتأدب قوم بالأدب الغربي إلى ثقافتهم العربية، فثاروا على كل ذلك واختلفوا بينهم في مقدار هذه الثورة، فقوم يريدون أن يتحرروا من الأوزان والتزام القوافي، وآخرون يريدون أن يتحرروا من التشبيهات البالية والمجاز العتيق، وآخرون يعافون بعض الأساليب القديمة، والموضوعات التي جرى عليها السابقون. وكان صراع بين الطائفتين نعرض له بعد.
على كل حال دلتنا أحداث الزمان على أن عوامل البيئة في التغيير والتجديد لا يمكن أن تقاوم، كما دلتنا على أن ليس كل تجديد يصادفه التوفيق ويتسع له صدر الزمن، وأن نجاح من نجح من دعاة التجديد وفشل من فشل منهم إنما كان خاضعا لقوانين طبيعية ظاهرة حيناً وخافية أحياناً، وأن نوع التجديد إن كان صالحا وكان مما تسمح به القوانين الطبيعية للأدب فمعارضة المعارضين لا يكون لها من أثر إلا أن تؤخر زمن الإصلاح، وهو واقع لا محالة يوما ما، وإذا لم تسمح بها هذه القوانين كانت دعوة التجديد صيحة في فضاء، أو خطاً في ماء.
وبعد فأي أنواع التجديد يتطلبه المجددون؟ وهل من خير الأدب العربي قبوله أو رفضه؟
إن أول أنواع التجديد وأبسطها تجديد الألفاظ، لأنها مادة الأديب الأولية، وخيوطه التي ينسج منها قطعته الفنية.