هذا شيء أكلنا عليه وشربنا حتى مججناه، ثم أخرج له نسخة الديوان من الخزانة. وبلغه مرة وهو يسمر مع بعض أصحابه أن بعضهم رأى عند فلان الوراق رسالة من الرسائل، وكان هو يتطلبها من زمن وينشدها فلا يجدها، فلم يسعه إلا أن قام في الحال وأخذ يسأل عن دار الوراق من هنا وهناك حتى اهتدى إليها بعد ما مضى هزيع من الليل، فأيقظه من نومه وساومه في الرسالة بقيمة فوق قيمتها ولم يمهله للصباح بل أنزله من الدار وذهب معه إلى حانوته ففتحه ليلاً وأخرجها له ولم يهدأ له بال حتى باتت الرسالة عنده. فلما مات عرّض المترجم كتبه للبيع فبيعت وتفرقت واقتنى نفائسها ونواردها الكونت لندبرج قنصل السويد بمصر، وكان من مستعربي الأفرنج المولعين بجمع الكتب العربية، وأدركت أنا أوارخها فاقتنت منها بضعة عشر كتاباً، منها ما هو بخط عبد الغني بك نفسه، وبحواشيها آثار التصحيح واختلاف النسخ التي كان يقابلها بها
وكان أول التقائي بالمترجم في دار أبن أختي محمود توفيق بك، وهي إذ ذاك مجمع الأدباء ومحط رجال الفضلاء، فلما رأيته استغربت شكله واستملحت محاضرته، ثم رأيته يناقش الأدباء ويطارحهم الشعر، فدنوت منه وكنت صغيراً في أول الطلب، وقد تعذر علي فهم باب أفعل التفضيل، وأجهدت نفسي في درسين متوالين على تفهمه، فلم يفتح علي بشيء فيه، فسألته عنه فأوضحه لي بعبارة سهلت علي فهمه، فكان بعد ذلك كثيراً ما يقول لي ممازحاً: إذا ذكرت شيوخك فاذكرني معهم ولا تنسني. ثم تأهل ببنت حنفي بك، وكان لأسرتها نوع اتصال بنا، فاتصلت المودة بيني وبينه بهذا السبب، وازدادت ملازمته لي لما سكن بجوارنا، فكان يزورني عصر كل يوم ويبقى حتى نسمر معاً ثم ينصرف، فتارة كنا نحي الليالي بمسامرات أدبية ومذاكرات علمية، أو بمطالعة بعض الكتب، وتارة بمقابلة ما كنت أستنسخه وتصحيحه، وكان لا يمل من المقابلة مهما يطل الوقت فيها، ويقول هذا شيء دربني عليه والدي وعودني إياه من الصغر. وأشار عليّ مرة أستاذنا العلامة محمد محمود الشنقيطي أن أطالع أمالي أبى عليّ القاليّ مطالعة إمعان وتدبر، ولم تكن طبعت بعد، فاستنسخت منها كراريس عكفت على مطالعتها، وأخبرت المترجم أنني سأحتجب عن الناس بضعة أيام حتى أستوفي ما يهذه الكراريس، فغاب عني ثلاثة أيام ثم حضر ومعه زجل، ينحي فيه على الأستاذ وعلى أبي على القالى اللذين تسببا في انقطاعي عن الإخوان