للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والكبر والمساواة معان كلية عامة لا نستطيع أن نقول إنها موضوع علم بعينه كالحساب أو الهندسة ولكنها دائرة أوسع وأكثر شمولا للمعرفة العقلية من هذه العلوم. ويخرج أفلاطون من ذلك كله إلى أن الإحساس وحده لا يكفي لإقامة العلم، ويستدل عليه بأن الحيوان يعتمد على إحساسه المادي ولكنه لا يصل إلى مرتبة المعرفة العلمية.

ويتساءل أفلاطون عن كيفية حصولنا على هذه المعاني الكلية فيقول: إنا لم نحصل عليها عن طريق التجربة، لأن هذه المعاني هي نفسها التي ساعدتنا على فهم التجربة، فلا يبقى لنا إلا أن نقول إنها في النفس منذ الميلاد، وما الميلاد عند هذا الفيلسوف الشاعر؟ إنه نزول النفس إلى الجسم بعد أن كانت في عالم الأرواح، أو نزولها من العالم المعقول إلى العالم المحسوس. وهذا ألهمه إياه خياله الشعري القديم. فهو يعتقد أن النفوس الإنسانية وجدت أول الأمر أرواحا هائمة في عالم الأرواح غير متصلة بمادة ما، وأدركت في ذلك العالم الأمور الروحية ومنها المعاني التي ذكرناها والتي أطلق عليها اسم المثل. فلما هبطت هذه النفوس إلى الأجسام المادية وسكنتها واعتراها نسيان لاتصالها بهذه المادة الكثيفة، فبقيت كأنها لا تعرف شيئا حتى تنبهت بإدراك الحواس. وكلما أدركت شيئا ما من حياته الأرضية كان هذا تذكر لما حدث مثاله في حياته الروحية السابقة، وهذا هو اصل العلم عند أفلاطون. والنفس الإنسانية في رأيه قد تعود إلى هذا العالم أكثر من مرة ماد دامت لم تتظهر من التعلق بالأشياء المادية المحسوسة، وفي رجوعها قد تتقمص جسما حيوانيا كما قد تتقمص جسما بشريا، وهذا ما يعرف بالتقمص أو التناسخ.

والواقع أن أفلاطون قد مزج فلسفته بالخيال فجاءت مزاجا عجيبا معجبا في آن واحد. . . عجيبا لأن الشعر والفلسفة متناقضان على خط واحد، فهذا ينشد الخيال في السماء، وتلك غالبا ما تبحث عن الحقيقة في الأرض؛ ومعجبا كذلك لأن فلسفته هذه الممزوجة بالخيال جعلت أسلوبه الجدلي اقرب إلى الفلسفة الأدبية الشائقة منه إلى الفلسفة العلمية الجافة.

جبريل خزام

<<  <  ج:
ص:  >  >>