ثم ما أشعر إلا وضجة عجيبة يثيرها بعضهم حوله. وهنا فقط وجدت أن لا بد من كشف الستار. فهي فضيحة. وفضيحة لمصر خاصة، أن تبلغ غفلة النقد فيها هذا المستوى العجيب!
لكي ننقد كتاباً يعالج مشكلات اجتماعية ونفسية وإنسانية يجب أن نسأل هذه الأسئلة الثلاثة:
١ - هل يعالج الكتاب مشكلات حية تعيش في هذا الأوان؟
٢ - هل نفذ إلى صميم هذه المشكلات، وصورها التصوير الصحيح، وأقترح لها الحلول المناسبة.
٣ - هل كان أصيلاً في تصويرها وعلاجها؟
وقد سألت نفسي هذه الأسئلة، وكان الجواب باختصار:
١ - إن المؤلف (دون كيشوت) جديد يطعن برمحه طواحين الهواء يحسبها فرساناً، ويشق بها زقاق الخمر يحسبها قساوسة! ويحمل حملات شعواء على أولئك الذين يمدحون الجهل ويذمون العلم، ويقررون أن الجنة لا يدخلها إلا البله، ويؤمنون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما بعثت بخراب العالم. . .
ولكنه لا يقول: إن هذا كله كان من أوهام العوام، كان خرافات سوداء في عهود الظلام، ثم انتهت بانتهاء هذه العهود المظلمة. . . لا يقول هذا، إنما يتهم العقلية الإسلامية بأن هذه هي أهم مشكلاتها وعقائدها دائماً أبداً ليصل من هذا الطريق الملتوي إلى تحقير هذه العقلية في جميع الأزمان، وإلى إيثار العقلية الأوربية لأنها خلعت ربقة الدين، وربقة الخلق، وربقة التطلع إلى الله، وانطلقت تهدف إلى الأرض وحدها، ولا تعلق نظرها مرة واحدة بالسماء. لأن التطلع إلى الله كفيل بإفساد الحياة!
وفي ثنايا هذا الذي يبدو تحرراً فكرياً في ظاهره، يخدع المخدوعين ممن يحسبون التحرر الفكري مجرد التحلل من الأديان والأخلاق على أي وضع من الأوضاع، في ثنايا هذا يدس ما لعل الكتاب كله ألف لأجله: يدس الإيحاء للشرق العربي المسلم بأن لا حق له في كراهية الاستعمار والمستعمرين، لأنهم ورثة الأرض الذين يستحقون كنوزها وخيراتها، لأنهم يتطلعون إلى الأرض وأسبابها، ولا يعلقون أنظارهم بالله ولا بالسماء!