أول من تقدر بإحضار رأس هذه الأسرة إلى بغداد، هو المنصور. فانه لما بنى مدينة السلام بغداد سنة ثمان وأربعين ومائة للهجرة أدركه ضعف في معدته وسوء استمراء وقلة شهوة وكان كلما عالجه الأطباء ازداد مرضه، فتقدم إلى الربيع بجمعهم، فلما اجتمعوا قال لهم المنصور: أريد من الأطباء في سائر المدن، طبيباً ماهراً. فقالوا: ما في عصرنا أفضل من جورجيس بن بختيشوع رئيس أطباء جنديسابور؛ فهو ماهر في الطب. فأمر المنصور بإحضاره، فأنفذه العامل بجنديسابور إلى حضرة الخلافة بعد ما امتنع عن الخروج، ووصى ولده بختيشوع بالبيمارستان وأموره التي تتعلق به هناك. واستحصب معه تلميذيه إبراهيم وعيسى. فلما وصل إلى مدينة السلام أمر المنصور بإحضاره. فلما أحضر دعا للمنصور بالفارسية والعربية. فعجب المنصور من حسن منطقه ومنظره، وأمره بالجلوس، وسأله عن أشياء أجابه عنها بسكون. فقال: قد ظفرت منك يا جورجيس بما كنت أطلب. وخبره بابتداء علته، وكيف جرى أمره منذ ابتداء مرضه. فداواه حتى برئ وعاد إلى الصحة فأنزل في أجمل موضع من دوره، وأمر أن يجاب إلى كل ما يسأل. وأهدى إليه ثلاث جوار روميات حسان مع ثلاثة آلاف دينار. فأنكر جورجيس أمرهن وقال لتلميذه عيسى: يا تلميذ الشيطان! لم أدخلت هؤلاء إلى منزلي؟ ردهن إلى أصحابهن. فأعادهن. فسأله المنصور لم رددت الجواري؟ قال: لا يجوز أن يكون مثل هؤلاء في منزلي لأنا معشر النصارى لا نتزوج أكثر من امرأة واحدة، فما دامت المرأة حية فلا نأخذ غيرها، فحسن موقع هذا من الخليفة، وأمر في الوقت أن يدخل جورجيس إلى حظاياه وحرمه بلا إذن، وزاد موضعه عنده.
وظل جورجيس يخدم المنصور حتى مرض سنة اثنتين وخمسين ومائة مرضاً صعباً. وكان المنصور يرسل إليه في كل يوم يتعرف خبره. فلما أشتد مرضه أمر بحمله على سرير إلى دار العامة وخرج ماشياً إليه وتعرف خبره وسأله عن حاله. فخبره جورجيس بها، وقال له: أن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في الانصراف إلى بلدي لأنظر أهلي وولدي؛ فإن مت قبرت مع آبائي. قال له: يا جورجيس اتق الله وأسلم؛ وأنا أضمن لك الجنة. قال جورجيس: قد رضيت حيث آبائي؛ في الجنة أو النار. ثم خلف بين يدي