إلى إرضاء أهوائهم، فيذكروا هول الخلاف الذي صلينا جحيمه في صدر دولتنا وما تزال مرارته الأليمة في كل نفس خيرة تدبرت عبر التاريخ.
إني لا أخوض سياسة، وإنما أطلع هذه النفوس المعصومة على عواقب أول خلاف سياسي في الإسلام وما جر من ويلات متتابعات، ناقلا إياه من كتاب انتهيت قريبا من عمله. وأنا أحب أن يجعل الناس بالهم أبداً - كلما قرءوا التاريخ - إلى عبره وتجاربه فيأخذوا من كل شئ أحسنه، ويربئوا بأنفسهم وأمتهم أن يغامروا في تجربة ثبت ضررها وفسادها وخاصة إذا كان الثمن الذي قدمناه فيها دماء عشرات الألوف من أبطالنا:
لقد كان أمر المسلمين الأولين عجباً من العجب: امتلأت نفوسهم بكل ما حباهم ربهم من خير في الإسلام، فأحسنوا فهمه وأحسنوا الاستجابة لرسوله نساء ورجالا. فوطدوا أركانه في الجزيرة، ثم انتقل رسول الله إلى جوار ربه واندفع هؤلاء المسلمون الأخيار في أقطار الأرض يريدون إعلاء كلمة الحق وإنقاذ عباد الله من كل الأجناس والأديان: من شرور الظلم والجهل وامتهان الإنسان؛ فحرر الله على أيديهم بلداناً وشعوباً كثيرة، فأشركوا الناس كافة في سعادتهم وعدلهم وأمنهم. ومن عرف أنهم كانوا قبل عشرين عاماً فقط يأكل بعضهم بعضاً ويعدو قويهم على ضعيفهم، قبائل متعادية، وطوائف يغزو بعضها بعضاً. . . عرف نعمة الله عليهم وعلى الإنسانية بهذا التوحيد الذي ألف بين قلوب ما كانت لتتألف؛ وأدرك المعجزة التي أتى بها الإسلام في توحيدهم وخلقهم خلقاً جديداً جعل من سفكة الدماء أنبياء رحمة ورسل هداية وإسعاد للبشر.
لقد أتوا - وكلمتهم واحدة - بالعجائب في حروب التحرير والفتح ثم البناء والتنظيم، وكان منهم كل الخبر لأنفسهم ولغيرهم فلما صبت الدنيا خيراتها وكنوزها بين أيديهم، وتقادم ما كان جديداً من روعة الدين وعهد الرسول وصاحبيه، وكان أمر الشورى المعلوم، وكثرت في هذه الإمبراطورية الواسعة المناصب والولايات. . . بدأت نوازع الطموح تتحرك في نفوس هؤلاء الأبرار فيكبتونها رهبة من الله. لكن عناصر الشر والغش والفساد من أهل النحل البائدة والأمم المغلوبة كانت أيقظ من أن تغفل عنهم وهي الخبيرة بمداخل الشر ومخارجه، فما زالوا يفتلون لأولئك الطيبين في الذروة والغارب حتى استجاب بعضهم لأهواء نفوسهم من حيث لا يشعرون، ودب دبيب الخلاف بينهم واشتغل بعض ببعض،