انقضت الخلافة والخلاف بخيرهما وشرهما، ولم يبق منها إلا هذا التاريخ بين أيدينا مملوءاً بالعبر: فلنتعظ به، ولنحذر أي تفرقة بيننا بكل ما نستطيع، ولتكن تلك الدماء الذاهبة ضياعاً حافزة لنا على الواحدة وجمع الكلمة، فلا نعيدن فاجعتها جذعة، ولنهرب من كل خلاف وتفرقة هرب السليم من الأجرب فإنهما يبدأن صغيرين لا يؤبه لهما ثم يعظمان حتى يلتهمان الأخضر واليابس.
وإن أعجب لشيء فلأولئك الذين مازالوا يجتمعون ويتفرقون متجادلين في هؤلاء الصحابة الأخيار: أيهم المؤمن وأيهم الكافر؟ أيهم على الحق فيحمد وأيهم على الباطل فيذم؟ ويتقربون إلى الله في لعن رجال: ما منهم أحد إلا وله السوابق الحسان في نصرة الإسلام وإملاء كلمة الله والدفاع عن رسوله، وما فيهم إلا من بذل ماله ودمه ودم أهله للخير العام، فخلفوا لنا بفضل إخلاصهم هذه البلاد الواحدة على ترامي أطرافها. إنها وحدة جامعة عجزت ضربات الدهر وسطوات الدول ثلاثة عشر قرناً عن أن تنال منها ما يقضي عليها ويمحوها؛ فما زال العراقي إذا هبط أقصى المغرب في مراكش لا يحس بغربة عن أهل ولا وطن. أستغفر الله، بل مازال المسلم الصيني من أقصى الشرق إذا هبط ساحل بحر الظلمات تلقته القلوب بالبشر والترحاب لقد جمعهم الله بمحمد وصحبه على كلمة حق واحدة فلن يفرق أحد ما جمع الله بمحمد وصحبه.
لست بسبيل تعداد المآثر المشهورة لأولئك الأخبار الذين هم موضوع الخلاف كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة. . .، فأصغر أعمالهم عند الله يمحون كل ما يذكر خصومهم من أخطاء، وقد ذهبوا إلى خالقهم الذي أرضوه بأعمالهم ورضي عنهم، وسجل رضاه هذا في قرأنه الكريم يتلى ما بقي على الأرض إنسان.
فلنمحضهم جميعاً محبة واحدة، ولنستغفر لهم ولأنفسنا، ولنذكرهم بكل خير جزاء ما خلفوا لنا من وحدة قوية، ودولة مثالية بنوها بجهادهم في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، جهاداً أرخصوا فيه مهجهم وضحوا بأعز ما يملكون؛ ولنطرح عن عواتقنا مخلفات عصور الانحطاط والشعوبيات، ولنقتد بهؤلاء الأخبار أنفسهم حين يعرض بعض لذكر بعض، فقد نزع الله ما في صدورهم من غل وعادوا إخوانا متحابين كما أمرهم الله أن يكونوا.