للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عن الحياة بعد أن خضع لمعاببر العلم وتجارب التاريخ وعبر الأزمان. فالعلم يقرر أن الإنسان كلما ارتفع صعدا في سلم الحضارة دقت عضلاته ومرنت عظامه وخفت حركته، أي كلما تقدم تحرر من قيود جسمه ليماشي الكون في حركته الدائبة نحو الخروج ونحو الانفصال عن المركز إلى الخارج في اندفاعاته الانتقالية. وتحطيم الذرة في عصرنا الحديث ليس إلا مظهراً من مظاهر الشوق الوجودي إلى التحرر والانفصال عن الكتل والهيولى. إن كل ما في الكون في حركة دائمة يريد التحرر من المادة والدنو من الصورة، ويعمل على أن يفك عنه قيود التجسم ليعود إلى النموذج والمثال. فالصراع بين الهيولى والصورة والذي كان لب فلسفة أرسطو العظيم هو ناموس الأبد، بل قل جرثومة التطور وقانون الحياة.

ولعل التقدم المعنوي هو فرع من ناموس الحرية الذي فرض أرادته على الحياة في كل سبيل من سبلها. وإذا أردنا أن نشرح هذا أكثر، فلنأخذ أشد الألفاظ لصوقا بالإنسان وأقدمها في معاصرتها له، ولنسر وإياها في تاريخها الطويل؛ فأننا سوف لا نجدها ألا سائرة من التعبير عن ملابسات المادة إلى السمو والدلالة على تعبيرات الروح والفكر. خذ كلمة (الضحية) وهي الكلمة التي كتب عنها الأستاذ العقاد بحثاً قيماً في عدد من أعداد الرسالة، فهذه الكلمة أول ما وجدت في الحياة، وحياة الإنسان خاصة، كانت تعنى (النذر) التي كانت تقدم للأرباب والمعبودين، ولم تكن تعنى غير هذا المعنى المادي الملموس الدال على تقديم علائم الخضوع في شكل أشياء مادية لاسترضاء الآلهة. ولكن بعد أن سار الإنسان أشواطاً جديدة في ميدان الحضارة أخذت الكلمة تدل على معان جديدة وراحت ترتفع من الدلالة على الأشياء المادية إلى التعبير عن أشياء معنوية كإنكار الذات وفداء النفس في سبيل الوطن أو في سبيل الشرف أو لإراحة الضمير ونحوها من المجازات والدلالات على معاني الأخلاق السامية.

(بغداد)

فؤاد طرزي

<<  <  ج:
ص:  >  >>