وطنه، والتفسير المادي يقتضي منه أن يقدم ذاته على بلده. ولا تستطيع أن تفسر أيضاً كيف تفتدى الأم وليدها في حين أن ظواهر الأشياء ومنطق التفسير المادي يفرضان عليها حب نفسها قبل غيرها. ويثبت المنطق أن الفكرة قوة من القوى والمادة شكل جامد، وأن هذا الشكل لا يكتسب الحركة إلا بعد أن تحل هذه القوة في هيكله. فالفكرة هي التي تدفع وتوجه، والمادة تتشكل وتتخذ أوضاعاً ظاهرة. وقد يقال لا موسيقى بلا أوتار، ولا بناء بلا أحجار، ولا فكرة بغير مادة عصبية؛ ولكن الكمنجة ليست هي الموسيقى، والبناء ليس هو الأحجار، والذهن ليس هو الفكر. إن لحنا من ألحان بيتهوفن - كما يقول الفيلسوف رينان - موجد على الورق، ولكن من يكسبه الحركة والحياة؟ بلا شك العقل. وإن الفعل الإرادي الذي يتمثل في الاهتزاز هو الذي ينقله من عالم الجماد إلى عالم الحياة، وهذا الاهتزاز حقيقة عضوية قابله للوزن والقياس. إن الفكرة قوة تريد أن تكون والمادة تعينها وتنقلها إلى الكينونة والواقع. إن الفكرة هي الموجودة في الواقع وهي وحدها الكامنة، وتطمح إلى الوجود التام بإيجاد التراكب الكيميائية لا ظهارها.
من كل الذي ذكرناه نرى أن الفلسفة المادية لا يمكن أن تتوافق مع الغاية التي تتحول إليها الظواهر والشيات والكائنات، لأن هذه كلها ترتفع من الأدنى إلى الأعلى ولا تريد إلى حالة سابقة ولو تعاونت على ذلك كل قوى الإنسان، في حين أن التوحيد المادي ارتداد رجعي إلى حالة سابقة حيث يتحكم كل شئ في الإنسان فلا إرادة تستطيع أن تؤثر على مجريات التقدم لأن هناك قدرا صارما يحكم، ولا قوة عقلية تقدر أن توجه الأعمال إلى غايات مرسومة لأن الحلقة الآلية قد وضعت الحياة في دائرتها فلا تدع لها الحرية في العمل. وكل هذا يعاكس منطق الأشياء حيث نلاحظ أن الإنسان كلما سار مع الزمن استطاع أن يخضع الطبيعة ويخضع التاريخ لمشيئته، وانه كلما اتجه إلى الأمام ارتفع إلى الأعلى ليتحرر من قيود الظواهر المكانية والزمانية ومن دكتاتورية المعاش ويقرب من الغايات المعنوية في كل موجود من موجوداته
إن علائم التقدم والتطور تجمع في كلمتين اثنتين:(الحرية) و (التقدم المعنوي) فالتحرر علامة فارقه لقياس الحضارة، والتقدم المعنوي عمود التطور إذا جسمنا كلمة التطور وألبسناها حلة التشبيه والتمثيل. وليس قولنا هذا محص سفسطة ومغالطة، بل هو منقول