البائسة - كما يدعوها - ليست نتيجة ألمه وشقائه، ولكن نتيجة اعتقاد وايمان، ويؤلف مقطوعة الموت والحب، معنوناً إياها ببيت للشاعر (لمينادر)(هنالك يموت شاباً من تحبه الآلهة)
وإزاء هذا التناقض الذي شاهدناه بين قصائده ورسائله كتب أيضاً (وداعاً يا صديقي العزيز. . إنني أحس في نفسي رغبة هائجة لعناقك، ولكن كيف؟ وفي أي موطن أستطيع؟ أخاف جداً ألا يكون هذا بقدر طول حديقة (أسفوريل). حدثني عن دروسك، وأحببني دائماً، وداعاً لك من كل قلبي)
انتشرت الكوليرا في نابولي وكثرت ضحاياها، فنقله (رانيني) صديقه الحميم إلى (بورتيسي). وفي الرابع عشر من يونيو عام ١٨٣٩ أخذت الشاعر نوبة إغماء قوية تزايلت لها أعضاؤه، ولم يكن عند الشاعر إلا صديقه وأخت صديقه، كانت تمسح العرق المتصبب من جبين العليل، وكان (رانيني) يساعده بحركات رياضية على التنفس، وكل هذا لم يغنه شيئاً. فعاد بعد لأي إلى وعيه واتسعت عيناه، ونظر إلى صديقه نظرة عميقة، وقال به بلهجة يمازجها التنهد:(لن أراك أبداً) ثم انقطعت أنفاسه وهمد قلبه الهمدة الأخيرة
ووري جثمانه في الكنيسة الصغيرة (سانت فينال) حيث يرقد غير بعيد عنه رفات الشاعر الأكبر (فرجيل). فيا لله من هذا الحظ الذي جمع بين لحدي هذين الشاعرين العظيمين، وهما على قربى في الوطن والفكر والشعر. قد انشق الاثنان من نبعة، وانطلقا ليرقدا في رقعة واحدة. كلاهما تألم، وكلاهما لقي حتفه في ميعة الصبا، وكلاهما أيس من العالم الثاني، وود أن ينتقم من المقادير ويثأر لشقائه فقالا:(هي المقادير! ما أوجدت الإنسان ليحيا، وإنما أوجدته ليموت)
وهذه الفكرة التي تجعل الموت غاية الوجود قد رددها ليوباردي في مقطوعته (أنشودة الديك)
_ يخيل اليَّ أن المآل الوحيد لكل موجود هو الموت، لن يموت شيء لم يوجد، ولن يولد شيء من العدم.