تكون هذه الوجهة غيرها فيما لو قيَّضت المقادير لهذا الشاعر حياة ناعمة وعيشاً رغداً، إذا لكبست الحياة متفائلاً جديداً يشدو بمحاسنها ويلهج بالثناء على جمالها، وسيان عندها شاعر بكى وشاعر شدا:
فلله ما أظلم الفلسفة إذا كان قليل من هناء يبيض وجهها فيبيض العالم، وقليل من شقاء يسوَّد وجهها فإذا العالم كله ظلمات بعضها فوق بعض. والحقيقة - وأجدر بالحقيقة أن تكون وراء هناء الإنسان ووراء شقائه، ولكن قل لي من الذي يستطيع أن يتجرد من جميع هذه الظواهر، ومن ذا الذي يقدر على أن يضمن سلامة عقله إذا جاع بطنه، وأن يبقى على هنائه إذا عضه ألم أو فرَّ منه أمل
- ٦ -
وهكذا ظل ليوباردي تتشاطر قلبه نوازع مختلفة، وينحط على جسده الداء إثر الداء، يحاول أن يهدئ ثائرتها عنه بتنقله من رومة إلى بولونيا، ومن بولونيا إلى فلورنسا، إلى نابولي، والداء لا يزيد إلا تمكناً منه، حتى آثر الشاعر الموت لنفسه على ان يذلها بسبب الحاجة، وقد دفعه ألمه هذا للكتابة إلى والده (. . . ان ما رتبته لي لا يكفي. . . على أنني أريد ألاّ أحيا كما يحيا الناس، ولكن الموت هو أفضل عندي، ولكن الموت يجب ارتقاب أجله، فلو كان الأمر بيدي لما طلبت إليك - والله شهيد علي - أن تمنحني شيئاً.)
تعرف في نابولي إلى صديقه (رانيري) ذلك الصديق الذي أخلص له كل الإخلاص، وظل أميناً حتى اللحظة التي غادر فيها ليوباردي الوجود، وفي نابولي اعتزل الشاعر الناس، فلا يبصر منهم أحداً، ولا يسمع عنهم شيئاً، كأنما عزلته هذه هي عزلة الموت. ينطبق عليه فيها قوله (أصبحت جزعاً يفكر ويقاسي العذاب، هو لا يزجى حياته إلا في التفكير، ولا يشغله في عزلته ألاّ التأمل. إذا رآه الناظر يخطر بين خرائب (بومباي) عند الغروب، تمثل شبحاً قديماً يزحف بين الخرائب يرثي حظها وحظ نفسه
وجد على قمة جبل تنفث مائعاً نارياً نبتة ضعيفة تحاول أن تنزل فيها جذورها، فمثل الشاعر نفسه بالنبتة الحقيرة وناجاها قائلاً:(وأنت أيضاً، ستخضعين لقوة النار، وستنحنين تحت الأثقال، ولكنك لن تنحني جبانة أمام الظالم، ولن تلتفتي إلى السماء بكبرياء أهوج)
يطغى على ليوباردي هذا الشك العنيف، فينكر الخلود ويعلن قبل موته أن هذه الفلسفة