للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحاضرة وجوها الكامد الجاثم ليلا ونهاراً، وبين هذه الرحاب المتمادية التي يبثها النهار لواعجه وحرقه، ويأتي الليل فيناجيها نجوى خافتةً في ضميره العميق المشتمل على أسرار الحياة برها وفاجرها، وتقف النجوم على أرجاء سمائها مصغياتٍ مشرقات زاهرات كأنما يومض بعضها لبعض فرحاً بما سمعت من تلك الأسرار المصونة المكتمة.

كلما أوغلنا في البادية وفي قلب الليل ازددت فتنة بليالي الصحراء وتهامس رمالها وتناجي كواكبها، وأسمع لليل هسهسةً كأنها أحاديث قلوب عاشقة قد تدانى بها السرار، فتمضي الساعات والعيس ماضية بنا فلا نمل ولا نكل ولا نحس وحدة ولا مخافة، كأنا قد دخلنا الحرم الآمن الذي لا يراع اللائذ به. وجعلت نفسي تتجدد وتتطهر كأن برد الليل قد غسلها فما تشوب نقاءها شائبة.

وبعد ليال أفضت بنا المسالك إلى (الربذة) التي بها قبر أبي ذر الغفاري رضوان الله عليه، فلم يبق بيننا إلى المدينة سوى ثلاثة أميال، وأدركنا الفجر وإننا لعلى مشارفها، فقلنا نعوج بها فنصلي الفجر ثم نرتحل حتى نبلغ المدينة في نهار يومنا هذا. فلما أنخنا جمالنا وقمنا إلى الصلاة، سمعت صوت قارئ قد تأدى إلينا من بعيد، فتلمسته حتى تبينت صوتاً راعداً تقياً كأن الجبال والرمال والدنيا كلها تهتز على نبراته القوية العنيفة الصادقة، وكأنه في إهاب الليل المهلهل فيفريه فرياً ويمزقه بمدى من النور، وكأنه يسيل في البطحاء كالسيل المتقاذف فتموج فيه رمالها كأمثال الجبال نسفت من قرارتها، وكأن ألفاظه هبات عاصفة تفض دروع الليل فضاً، وكأن نغماته أنوار مشعشعة تخالط هذا كله فتملأ الفجر فجراً من نورها ونور ألفاظها ومعانيها. وأول ما تبينته حين دنوت منه بحيث أسمع قراءته: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون. لن يضروكم إلا أذى، وأن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون. ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء يغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)، إلى آخر الآيات، فلما أخذ يكبر سمعت التكبير يملأ جنبات الأرض كلها متردداً ظاهراً كأن لم يبق في الدنيا شيء إلا كبر بتكبيره.

<<  <  ج:
ص:  >  >>