للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فرغ الرجل من صلاته ووضع عمامته وبقي حيث هو قليلاً ثم قام، فأضاءه لي ذرو من نور الفجر الناهد من قبل المشرق، فإذا رجل في السبعين من عمره وافر اللحية أبيضها، أسمر شديد السمرة طوال جسام فارع كأنه صعدة مستوية، أصلع الرأس شديد بريق العينين، نظر إلينا نظرةً وحيي ثم انفتل راجعاً إلى فسطاط مضروب قريب من حيث كان يصلي. . رأيته وهو يمشي كأنه قائد يحس كأن الجحافل من ورائه تمشي على أثره. وبعد قليل جاءنا رجل كأشد من رأيت من الناس نفاذ بصر؛ فحيانا وقال: من الناس؟ قلت: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي. قال: ابن العدل؟ رحم الله أباك، فقد شهد معنا المشاهد بعد عام الفتح. قلت: فمن يكون الرجل الذي أوى إلى فسطاطه يرحمك الله؟ قال أو ما عرفته؟ إنه محمد بن مسلمة الأنصاري صاحب رسول الله وصاحب أبي بكر وعمر. قلت: فما جاء به، وقد سمعنا أن رسول الله نهى عن أن يرتد المرء أعرابياً بعد الهجرة، وأنه ذكر ثلاثاً من الكبائر منها (التعرب بعد الهجرة)، فيعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً. قال: صدقت يا بني، ولكن لذلك خبر:

كأن محمد بن مسلمة فيمن ثبت مع رسول الله يوم أحد، فأعطاه رسول الله سيفاً وقال له: (إنه ستكون فتنة وفرقة واختلاف، فإذا كان ذك فأت بسيفك أحداً فاضرب به عرضه حتى تقطعه، واكسر نبلك واقطع وترك، واجلس في بيتك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة، فإن دخل عليك أحد إلى البيت فقم إلى المخدع، فإن دخل عليك المخدع فاجث على ركبتيك وقل: بؤ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين). وقد فعل حين كانت هذه الفتن بين علي ومعاوية فكسر حد سيفه وقعد في بيته، وأطاع نبيه وعصى الشيطان الذي استزل هذه الناس التي يقتل بعضها بعضاً. ولقد قضى في مكانه هذا ثلاث سنوات يدعو ربه أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين التي جعلت تتفانى على دنيا فانيةٍ، وعسى ربك يستجيب لدعاء هذا الرجل الصالح فتحقن الدماء وتوصل الأرحام ويعز بهم دين الله في هذه الأرض.

(قال عمر): فسألت الرجل أن يستأذن لي على أبي عبد الرحمن محمد بن مسلمة فذهب ثم جاء يومئ إلي أن أقبل. فدخلت على أبي عبد الرحمن فسطاطه فإذا فيه سيف معلق على جانب منه، فلما سلمت رد التحية وقال: مرحباً بك يا ابن أخي! ما جاء بك؟ قلت: زائر إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>