صالحاً لكل زمان ومكان، وبما يجعله قابلاً لكل خير وصلاح تجود به العقول إلى أن يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين!
ترى ماذا كان يتطور إليه الإنسان لو لم يمد بهداية السماء؟ لا شك أنه كان سيعرف بعض صور الواقع الصحيح، وبعض نواحي الخير، ويدرك بعض أسرار الجمال، ولكن إلى أي حد؟ وبعدكم من القرون والدهور؟ أعتقد أن (الهداية الإلهية) قد عجلت على الأقل إلى حد بعيد، وبعيد جداً، بتهذيب الإنسان وتطويره، وأن المبادئ التي اشتملت عليها الشرائع عامة كانت بمثابة بذور غرست فانبتت وما زالت تنبت وتؤثر في الغذاء الفكري للإنسان تأثيراً عميقاً، سواء أحس الإنسان بذلك أم لم يحس، نعم قد يظن الإنسان أنه وصل إلى ما وصل إليه من الرقي بعقله وأنه لو لم تكن الأديان لكان العقل ديناً وهادياً - وقد قال بذلك فعلاً بعض فرق المسلمين - ولكن ما هي مقاييس العقل وهل كان العقل - إذا لم يلقح بهذه اللقاحات السماوية - يمضي قدماً في الطريق المستقيم لا يضل ولا يشقى؟ إني لفي شك من ذلك وينبغي أن يكون ذلك موضع شك، فنحن نرى الأمم البدائية أو المنعزلة تقيم القرون والدهور في عزلتها، وهي على ما هي عليه في أفكارها وعاداتها وتقاليدها ونظرها إلى الأشياء وإدراكها للمعاني دون أن تتطور، ودون أن تتحرك، ودون أن تنبت فيها نابتة من عقل أو أثارة من علم، إلا إذا جاءها ذلك من خارجها، كأن يتصل بها قوم آخرون، أو يرحل عنها بعض أبنائها ثم يعود إليها، أو نحو ذلك. ويومئذ تبدأ في تفكير جديد، وتنظر إلى ما هي فيه، فتعرضه على العقل وتناقشه، وتختلف فيه خلافاً شديداً، وينتهي أمرها بأن تأخذ منه وتدع وتعدل فيه وتقوم، فربما تطورت وتطور التفكير العقلي فيها، وتطورت أساليب حياتها على نحو جديد، وما ذلك إلا لأن اللقاح فعل فعله، وأثر آثاره، وإن لم يدرك الإنسان في أثناء هذا التفاعل أنه حاصل واقع ماض في سبيله موف على غايته!
بهذا نستطيع أن نقيس حالة البشرية عامة لو لم تمد الأرض بهداية السماء. إنها تكون في غيابة من الجهل وضلال من التخبط وتظل فيهما، وأن تلونا بألوان متعددة، الحقب الطوال، والأزمان المترامية والدهور المتعاقبة، وهبنا سلمنا أنها تتحرر من هذا الجهل شيئاً بعد شيء عن طريق الصدفة، أو التفكير العقلي فإن ذلك يحتاج - والفرض أنه لا مدد من الهداية والنور - إلى أحقاب وربما انقضى عمر الإنسان على هذه الأرض دون أن يصل