وأحب أن نلتفت في هذا المعنى إلى آية كريمة في كتاب الله تقول (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا، إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا).
فهذه الآية تشير إلى الحقب المتطاولة التي مرت بالإنسان وهو في طور الخمول وغمرة الجهالة حتى جاز أن يوصف بهذا الوصف البليغ، فينفي عنه أنه شيء في هذا الوجود يستحق الذكر!
والإنسان هو عماد هذه الأرض، وهو خليفة الله فيها، وهو أكرم من فيها على الله، فإذا وصف من هذا شأنه بأنه لم يكن شيئاً مذكورا، فلا بد أن يكون هذا الوصف تعبيراً عن حالة من الخمول والضعف والتفاهة - لا أقول وصلت به إلى مرتبة الحيوان فإن الحيوان على كل حال شيء مذكور - ولكن أقول: إنه كأن أسوأ حالاً من الحيوان وأبعد وأوغل في الضلال والتسخير!
ثم تذكر الآية بعد ذلك خلق الإنسان وأصله، والغاية من هذا الخلق، وما ركب فيه من استعداد فطري له أدوات ظاهرة من الحواس كالسمع والبصر - سواء أكان المراد بهما هاتان الحاستان الماديتان أم كان مراداً بهما الاستعداد الفطري للتقبلوالفهم والإدراك عامة - وتردف الآية ذلك بنعمة الله عليه في الهداية إلى السبيل، والإرشاد إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، وبذر بذور المعرفة والعلم في محيطه، ينتفع بها من ينتفع، ويزور عنها من يزور، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة (إما شاكراً وإما كفورا) ذلك بأنه لا يوصف بالشكر ولا بالكفران إلا من علم.
وكأني بالآية الكريمة حيث ذكرت هذه المعاني الثلاثة في طراد واحد - فلفتت إلى حالة الإنسان في طور جهالته وضؤولته ثم أتبعتها بخلقه واستعداده الذي هيأه الله عليه، ثم ذكرت بعد ذلك الهداية والإرشاد - كأني بها وقد ذكرت ذلك على هذا النحو؛ تلمع إلى أن اعتماد الإنسان على هداية الله وإرشاده ليس بأقل من اعتماده عليه في خلقه، وفي استمداده الوجود منه، فكما لا يوجد الإنسان بدون موجد، ولا يخلق إلا من الخالق؛ كذلك لا يهتدي بدون هاد، ولا يرشد بدون مرشد، ولا يتعلم بدون معلم!