من هنا يجب أن يعترف الإنسان وأن يكون خاشعاً في هذا الاعتراف، بالهداية الإلهية، كما هو خاضع خاشع في اعترافه بالخلق والتكوين ويجب ألا يغره عقله، ولا تسول له علومه ومعارفه أمرا مهما بلغ منها، فيتردد في الاعتراف أنه محدود، وبأنه محتاج، وبأنه موضع فضل إلهي، وفيض ربأني، بهما قوامه وبهما عقله، وبهما سموه عن كل ما خلق الله في هذا الوجود، ولولاهما ما كان، ولولاهما ما صار شيئاً مذكورا!!
وناحية أخرى تتصل بهذا البحث: ذلك بأن العقول تتفاوت وتتضارب، ويرى بعضها الشيء حسنا بينما يراه الآخر قبيحاً، وهذه قضية يثبتها الواقع، ولا يجادل فيها متصل بالحياة! وإنما كان ذلك لاختلاف أسباب العلم واختلاف وسائل العلم، واختلاف الأمزجة والأهواء والبيئات، واختلاف العصبيات والجنسيات، وميل الإنسان بطبيعته إلى الاعتزاز بنفسه، والاعتداد برأيه، وتنفيذ فكرته، وفرضها على سواه فرضاً لا يخضع للمنطق ولا للعقل، ولكن يعتمد على السلطان والنفوذ والقوة الذاتية، فإذا ترك الناس يشرعون لأنفسهم، ويضعون المثل لتفكيرهم وثقافتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم فإنهم لا شك متأثرون بما أوضحنا من عوامل الشهوة والمزاج والبيئة والسلطان، ولا يستطيعون أن يتحرروا منها مهما بلغوا من العلم والحضارة، لأنها طبيعية تتغلب كل ما سواها، وإن استترت فإنما تستتر في الظاهر، وهي تعمل عملها في الخفاء ملحة مثابرة لا يثنيها شيء من الأشياء.
ومن هنا رأينا الأمم الحديثة يعتنق كل منها فكرة ويجعلها مذهباً له في الحياة، ويحاول حمل الناس عليها تارة بالقوة، وتارة بالدعاية. فهذه نازية، وهذه فاشية، وهذه اشتراكية، وهذه شيوعية، وهذه ديمقراطية وهكذا. وكل هذه أوضاع إنسانية متأثرة بما يتأثر به الإنسان عادة. وليس أصحابها وواضعوها من الملائكة المقربين، ولا من القديسين المنزهين عن الأغراض والنزعات، ولذلك اختلفت، وتعاركوا عليها؛ واحتاجوا إلى القوة في حمايتها، فلما تخلت القوة عن بعضها انهار وأصبح في عداد الذكريات التاريخية، ولو كأن حقاً وخيراً لبقي وصار الجميع إليه متفاهمين (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
أين هذه النظم من نظام الإله السميع العليم، المنزه عمن الأغراض والأخطاء، الذي ينظر إلى عباده جميعاً نظرة العدل والرحمة والمساواة؟