للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صلاح الدين خير الملوك قاطبة. . .

ومضى يحدثها عما عرفه من صفة المسلمين، وهي فاتحة فمها دهشة لا تكاد تفهم ما يقول ولا تصدقه. فعاد يقول:

- ولو أنهم ذبحونا لما كانوا معتدين، بل كانوا منتصفين منا، فانا لما دخلنا القدس منذ مائة سنة قتلناهم في البيوت والشوارع والمساجد، وحيثما وجدناهم حتى صاروا يلقون بأنفسهم من فوق الأسوار لينجوا منا، وحتى بلغ عدد من قتلنا منهم سبعين ألفاً ولم يتحرك قلب بشفقة، ولا لسان بإنكار. . .

وأصبح الصباح وهي لا تزال تفتش وتبحث، والولد على يدها ينادي: بابا. فيذكرها به، وما كانت ناسية، وإن كلمة (بابا) لأجمل كلمة في الدنيا، وفاتحة اللغات وأمها. فهي أول لفظ شري يجري به لسان الوليد، وهي كلمة الإنسانية تختلف اللغات وتتحد فيها. وهي كلمة الطهر ينطق بها الطفل قبل أن يعرف الشر ويدري ما المكر، وهي أحلى من كلمة (حبيبي) لأن من الحب ما يمدح وما يذم، أما الأبوة فخير كلها. والحب رابطة يصنعها الإنسان أما الأبوة فمن صنع يد الله.

ولكن (مارييت) لم تكن ترى فيها هذا الصباح إلا ناراً تحرق كبدها، وشفرة تمزقها، وضاق بها أمرها، فهرعت إلى جارات لها واجتمعن يترقبن ما يكون من الأهوال، فإذا القدس ترتج بصرخة واحدة اجتمعت عليها حلوق المسلمين والنصارى، أولئك ينادون: الله أكبر، وهؤلاء يعولون ويبكون، فنظرن فإذا أحد الجنود الفاتحين قد علا قبة الصخرة، فانزل الصليب الذهبي الذي لبث فوقها قرابة مائة سنة، وحسبوه سيلبث إلى يوم القيامة. . .

وجاءتهن الأخبار بما يصنع المسلمون في المدينة، فجعلوا يعجبون، ولا يصدقون، أن المسلمين لم يؤذوا أحداً، ولم ينهبوا مالاً، وأن من شاء الخروج دفع ما اتفق عليه وحمل معه ما شاء وخرج، وأن النصارى يبيعون ما فضل عنهم في الأسواق فيشتريها منهم المسلمون بأثمانها، وأنهم يروحون ويجيئون آمنين مطمئنين لم يروا إلا الخير والمروءة واللطف، وأن المسلمين قوم أهل حضارة وتمدن ليسوا وحوشاً ولا آكلي لحوم البشر، وروى لهن ما صنعوا في الحرم، فقد نزعوا كل ما أحدث النصارى، وردوه إلى حاله الأولى، وجاءوا بالمنبر الذي صنعه نور الدين الشهيد ليقام فيه، فأقاموه في الحرم، وخطب

<<  <  ج:
ص:  >  >>