قال الراوي: ودخلت فلم يمنعني أحد، ولم يسألني من أنا، فاختلطت بالمسلمين، فإذا هم جميعاً يجلسون على الأرض لا تتفاوت مقاعدهم، ولا يمتاز أميرهم عن واحد منهم، قد خشعت جوارحهم وسكنت حركاتهم، وخضعوا لله، فعجبت من هؤلاء الذين كانوا جنا في المعارك، وشياطين يوم القتال، كيف استحالوا هناك رهباناً خشعاً، ورأيت الخطيب قد صعد المنبر فخطب خطبة، لو أنها ألقيت على رمال البيد لتحركت وانقلبت فرسانا، ومضت حتى تفتح الأرض، ولو سمعتها الصخور الصم لانبثقت فيها الحياة، ومشت فيها الروح، ووجدت هؤلاء الناس لا يغلبون أبداً ما داموا مسلمين، ولو اجتمعت عليهم دول الدنيا، لأن قوة الإيمان أقوى في نفوسهم من كل قوة، إنه لا يخيفهم شيء لأن الناس إنما يخيفون بالموت ومنه يخافون، وهؤلاء القوم يحبون الموت ويريدون أن يموتوا، كلا، لا يطمع قومنا بهذه الديار أبدا، أنا أقول لكم، وأنا قد عرفت القوم وتكلمت بلسانهم وخالطتهم ووقفت على ديانتهم وسلائقهم. كلا، إنه لا أمل لنا فيها، لقد أنزلوا الصليب اليوم، بعد ما لبث مائة سنة فلن يعود، لن يعلو هذه القبة إلا شعار محمد، فلا نصرانية، ولا يهودية، خسأت وخابت اليهودية، إن كل بقعة في هذه الديار تنقلب إذا حزب الأمر وجد الجد (حطين)، وكل وليد فيهم يصير (صلاح الدين)، فلا يهرق قومنا دماءهم هدراً، ولا يزهقوا أرواحهم في غير طائل.
ونظرت (مارييت) فإذا قومها قد آثر فريق منهم البقاء في ظل الراية الإسلامية، حينما رأوا في ظلالها العدل والأمن والهدى، مع الحضارة والتمدن والغنى، وأبى فريق إلا الرحيل، فاختارت أن تكون مع هذا الفريق لا كرهاً بالمسلمين، فقد بددت شمس الحقيقة ظلام الأوهام؛ وكذب الواقع ما سمعت عنهم من الأحاديث، ولكنها لم تستطع أن تقيم وحيدة في البلد الذي يذكرها كل شيء بزوجها، وبحبها، وبسعادتها التي فقدتها. . .
ومشت القافلة وتلفتت مارييت إلى الوراء، تودع هذه البلدة الحبيبة إلى قلبها المقدسة عندها، بلدتها التي ولدت فيها ولم تعرف لها بلداً غيرها، ونظرت إلى موضع الصليب الذهبي الذي كان يشرق كالشمس على قلبها فرأته خالياً منه. فأحست أنها تركت قلبها في هذا البلد الذي كان لقومها، فصار لعدوها، والذي خلفت فيه زوجها لا تدري في بطن أي