المتأخر من الليل! ما جدوى هذا الهيكل لك الآن؟ وإذا بالصوت يصدر من الكلة نفسها ويقول: يا له من سؤال عجيب! إن في هذا الهيكل عظاماً كانت سياجاً يقي قلبي الفتى الذي لم يجاوز السادسة والعشرين، أفلا يحق لي أن أراه مرة أخرى؟. فقلت له:(لا شك في ذلك، إنها رغبة سامية محترمة، فلتبحث عنه ما شئت، ودعني أنعم بالكرى قليلا!)
فقال الصوت:(أظنك هنا منفرداً، حسن، إني لأغتنم هذه النهزة لأجلس برهة معك، نتجاذب فيها الحديث، وتلك سجيّتي، فقيماً كنت أجلس إلى الرجال نتحادث، ولكن في الخمسة والثلاثين عاماً الأخيرة، أبدلت ذلك بأنيني مع الرياح الداوية عند قبور الأموات، وهاأنذا أتكلم مع فرد من بني البشر لأول مرة منذ مماتي).
وأحسست أن شخصاً يجلس قرب كلة سريري، فأذعنت الواقع وأجبت:(إن هذا في الحقيقة لشيء جميل جدا، وهيا بنا نتكلم في شيء طريف) فقال الصوت: (إن أجمل شيء أتذكره هو تاريخ حياتي، فدعني أقصه عليك)
وحينذاك دقت الساعة دقتين فانطلق محدثاً وقال:
(عندما كنت في ميعة العمر في دنياكم، كنت أخشى شيئاً واحداً كما أخشى الموت، ألا وهو زوجي، وكانت احساساتي أشبه باحساسات سمكة علقت بالشص، إذ كنت أحسبني هذه السمكة، وقد نزعت من ذلك الهدوء الذي شعرت به في منزل الصبا. لقد مات زوجي عقب زواجي بشهرين ولم يكن حزنهم على وفاته أكثر من حزنهم على حظي التعس، أما أبوه فقد نظر إلى وجهي ذات يوم وقال لزوجه: ألا ترين في عينها نذير الشؤم؟
ثم قال الصوت: (أمنصت أنت لقصتي: آمل أن تكون قد أعجبتك!)
فقلت:(لقد أخذت على جماع مشاعري وإن مبدأها ليشوق المرء إلى نهايتها.)
(ثم عاد الصوت يقول: دعني أتمها، لقد عدْت إلى منزل والدي، والسرور يملأ نفسي، واستنكر الناس هذا مني، ولكني كنت أعرف جيداً إني على قسط وفير من الجمال، ألا ترى ذلك؟)
(فقلت: لا شك في ذلك، ولكن يجب أن تتذكري إني لم أرك أبداً.)
فصاح الصوت: (عجباً لك! ألم ترني مطلقاً! إذن فما هذا الهيكل العظمي، ها ها، لا بأس عليك، لقد كنت أمزح معك وهل في مقدوري أن أعرفك كيف كان في هاتين الحفرتين