الغائرتين عينان يشع منهما السحر، وألاّ تشابه بين الشفتين الياقوتيتين اللتين كانتا تفتران عن ابتسامة فتانة وبين تلك الأسنان القاتمة التي تعودت أن تراها، وإني كلما حاولت أن أصور لك ما كنت عليه من جمال عبقري، وحسن وبهاء ورقة، ابتسمت طربا كما أشعر بشيء من الحزن والغضب، وإن أشهر أطباء عصري لم يكن يخطر على بالهم أن عظامي ستكون يوماً وسيلة لتفهيم دروس الاستولوجي، أتعرف طبيباً شاباً - كما أعرف - قارن بيني وبين زهرة (الشامباك) وما دار بخلده أن هذا الهيكل المحطم لفتاة كانت هي زهرة الجمال، وكلما سرت شعرت بأني قطعة من الماس المتلألئ ألقيت في جوف الثرى، وأن كل حركة مني تثير عاصفة من الإعجاب، وكم أمضيت الساعات الطوال أتأمل هاتين اليدين اللتين تمناهما كثير من الشبان المتيمين، ولكن هذا الهيكل الجامد، لا يستطيع أن يحرك شعورك نحوي، ولست أملك وسيلة أدحض بها هذا الافتراء الذي يوحيه إليك هيكلي، ولذلك أشعر بمقت للرجال، وهاأنذا أطرد الكرى عن مقلتيك بوصفي لك شفتي الورديتين.)
فصحت قائلاً:(أقسم لك بجسدك، أنك لو كنت محتفظة به حتى الآن لما كان للاستولوجي أثر في ذاكرتي، ولكان الذي يملؤها هو صورة الحب القوي العاصف يلوح لي في غياهب الليل، ولست أذكر لك أكثر من ذلك.)
فتابع الصوت كلامه قائلاً:(لم تكن لي فتاة شقيقة، أما أخي الوحيد فقد وطد العزم على ألاَّ يتزوج، وكنت أقضي الوقت منفردة في الحديقة أتفيأ ظلال الأشجار المتهدلة، وأسبح في بحر الخيال. فأتصور العالم كله يعبد جمالي، وأن النجوم الزهر تسكر من حسن طلعتي، وأن الرياح تدوي إعجاباً بي، والعشب المخضر يضطرب ثملاً حين أخطر فوقه، وكنت أحسب شباب العالم كلهم كالأعشاب التي أطؤها بقدمي، ولكن قلبي لأمر ما كان ينطوي على شيء من الألم، وكان لأخي صديق اسمه (شيكار) أتم دراسته بكلية الطب وأصبح طبيب العائلة، وكنت أرقبه عن كثب من خلال الأستار، أما أخي فقد كان رجلاً شاذاً اعتزل الناس، وأوى إلى ركن مظلم، وإذ كان (شيكار) صديقه الوحيد فقد أبيح لي أن ألقاه، وكنت إذا مضيت إلى الحديقة مساء، تخيلت كل عشبها (شيكارا) آخر. أمنصت أنت إلي؟ فيم تفكر الآن؟)