للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تشرع في البناء، وأنها ستقوم بنفقات إنشاء هذه المنازل وتكاليفها؛ كما ستقوم بالانفاق على هؤلاء العلماء وتتعهد بما يقلق خواطرهم من الناحية المادية حتى تتيح لهم الفرصة في خدمة العلم وقصر جهودهم على العمل في معاملهم.

ومن نحو خمسة عشر عاماً فكرت الحكومة الفرنسية في بناء مدينة للأدباء والفنانين والعلماء على أن تكون في الوضع الذي يلائم أمزجتهم راحة وهدوءاً وطمأنينة، ولكن المشروع لم يخرج عن دائرة التفكير، وعلق كاتب فكه على هذا النبأ قائلا في سخرية: (أولى بالحكومة الفرنسية أن تقول إنها تريد أن نقيم مدينة للمجانين، وإنها تريد أن تريح المجتمع من هذيان أولئك الذين يقولون عنهم إنهم أدباء وفنانون).

وهذا التفكير الحديث في أوربا قد سبق إليه آباؤنا وخرجوا به إلى دائرة التنفيذ والتحقيق منذ قرون، فقد وقفوا على الأزهر الأوقاف الضخمة، وأنشئوا به الأروقة والمساكن، ورتبوا الرواتب للعلماء والطلاب حتى يكفلوا لهم الراحة المادية، ويصرفوا أذهانهم عن التفكير في شئون العيش إلى التفكير في مسائل العلم.

والواقع أنه ليس هناك همٌّ أثقل على نفس العالم والأديب من التفكير في شئون المال وتدبير العيش. ويروي عن الإمام أبي يوسف أنه قال: جلست في بيتي وقد نشرت كتب العلم بين يدي وأخذت أجتهد في تحرير مسائل الفقه والتشريع، فدخلت الجارية عليّ وقالت ليس في البيت دقيق، فطارت من رأسي أربعون مسألة ولم تعد واحدة منهن أبداً.

فنحن نغتبط أن تهتم الحكومات بتوفير العيش والطمأنينة المادية لرجال الفكر حتى ينتجوا ويثمروا، ولكنا لا نرى من الخير لهم وللمجتمع وللعلم أن يعزلوا في أماكن خاصة، لأن المفكر إنما يتعامل مع المجتمع، فهو يأخذ منه ويعطيه، وبهذا يكون عاملا من عوامل تطوره، وإلزام العالم والمفكر بالانتاج لا يجدي، فقد تخطر له الخاطرة، أو تطوف برأسه الفكرة وهو سائر في ضجيج الشارع أو في مجتمع عام صاخب أو وهو يرى مشكلة تواجه المجتمع، وليس من شك في أن عزل العلماء والمفكرين سيصيرهم على مرور الأيام أشبه بطبقة الكهان، وسرعان ما يضيق بهم المجتمع على هذا الوضع، ويضيقون هم بأنفسهم.

(م. ف. ع)

لن تقوم في الأرض مملكة يهودية فلسطينية:

<<  <  ج:
ص:  >  >>