الديمقراطية وإسعاد البشرية وتهذيب الشعوب وإنقاذها من الخوف والمرض والجوع، إنما الذي يدهشني حقاً هو أن أرى دولة فرنسا في حال من الهوان والبؤس والذل، والفقر والضعف والجوع، ومن الضعة الروحية والفاقة المعنوية، يدهشني أن أراها تشمر عن سواعد نخرة بالية تحمل سلاحاً فتاكا ترمي به العزل من أبناء تونس والجزائر ومراكش، قطعانها التي تعيش على صوفهم وتشبع من لحومهم كأنها تنتقم من الألمان وقد داسوا كبرياءها بحوافر خيولهم.
حفزني إلى هذا التساؤل والاستطراد محاضرة سمعتها من الأستاذ محمود عزمي ألقاها في نادي الرابطة العربية عن مشاهداته في شمال أفريقيا فبدا لي أن أقارن بين الحكومتين الإنجليزية والفرنسية في طريقة استعمارهما الشعوب الشرقية المستضعفة الواقعة تحت حكمهما، مكتفياً بهما وحدهما، لأن الحكومات الأوروبية المستعمرة الأخرى وإن كانت أكثر ظلماً، وأوفر شراهة وجشعاً، تهتدي دائماً بهدى الإنجليز والفرنسيين في استذلال الأمم واستعبادها، وتحذو حذوهما في كل ما يقترفان من شرور ومظالم وما يدبران لها من أغشيةللتضليل والتمويه.
نعرف أن السياسة الإنجليزية رأت أن تقف سداً دون انتشار التعليم في مصر فرمت وزارة المعارف بطاغية يدعى دنلوب عمل جاهداً على أن يجعل من النشء الجدد موظفين لدوائر الحكومة محدودي المعرفة مسلوبي الإرادة.
وما كنا نعرف قبل أن عرفنا الأستاذ عزمي أن الفرنسيين في تونس والجزائر ومراكش لا يسمحون بإنشاء مدرسة ابتدائية أو ثانوية إلا بإذن خاص من المقيم الفرنسي العام، وما أندر ما يأذن ذلك الحاكم الأجنبي بافتتاح مثل تلك المدارس بحجة أن التعليم يجب أن يبقى قاصراً في الكتاتيب على حفظ القرآن، وأن ما نسمع عن المدارس العالية هناك فإنما أمرها بيد الفرنسيين وحدهم وأن برامجها موضوعة وفق مشيئة الروح الاستعماري وهو ولا شك أضل وأسوأ من مشيئة دنلوب.
نعرف أن الشعوب الشرقية التي يحتل الإنجليزي بلادها يحكمهم وفق قوانين موضوعة ومحاكم قائمة وأحكام تنشر وتذاع، بيد أن أقطار شمال أفريقيا تحكم، كما روى الأستاذ عزمي، بغير قوانين، وأن ليس في (رباط) قانون عقوبات، إنما لها محاكم شرعية تحكم في