العقلية والاتجاه الجديد الذي أعطاه لعلم الكلام. وقد انتهى الأستاذ جبر إلى أن إمام الحرمين هو رأس المتأخرين، وأن التمييز بين المتقدمين والمتأخرين يرجع إلى ناحيتين:
أولا: بالنسبة لطريقة الاستدلال على العقيدة، فقد يخالف إمام الحرمين الأشعري والباقلاني، إذ هو جعل الاستدلال على العقيدة بطرق ثلاث: السبر والتقسيم المنحصر بين طرفي النفي والإثبات، وقياس الخلف الذي يثبت الشيء بإبطال نقيضه، القياس المستقيم. والأشعرية قبله لم يستعملوا قياس الخلف ولا القياس المستقيم بل كانوا يستعملون طرقا خطابية تارة وقضايا مسهورة أخرى والسبر والتقسيم بقسميه المنتشر والمنحصر.
ثانيا: بالمسبة لبعض الموضوعات الكلامية مثل الكلام على الصفات الخبرية التي وردت في الكتاب والسنة. فطريقة الأشعرية قبل إمام الحرمين هو عدم التأويل وعدم بيان المراد منها. أما إمام الحرمين فقد أول وبين المراد مهنا. ويقول الأستاذ جبر إن إمام الحرمين هو أو من جعل الأبحاث الكلامية مثل البحث في الجوهر والعرض والكون والطفرة والجزء الذي لا يتجزأ وسيلة وطريقة تؤدي إلى الغاية المطلوبة من نفس علم الكلام وهو إثبات الله وصفاته ونفي القدم عن سواه أكان قدما ذاتيا أم زمنيا.
وليس يتسع لي مجال هنا لمناقشة الأستاذ جميع نتائجه فهذا يستحق بحثا على حدة، غير أني أوافقه في جعل إمام الحرمين ممن أثروا تأثيرا حاسما في توجيه علم الكلام توجيها جديدا. ولو أني أميل إلى وضعه لا في رأس المتأخرين كما يفعل الأستاذ بل في محل وسط بين الفريقين، وكحلقة اتصال بين طريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين.
ومهما يكن من أمر، فإني على يقين أننا لا نزال محروم التفاصيل الشافية فيما يخص تاريخ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وذلك للعدد الضخم من المخطوطات التي لا تزال مطوية في أجواف المكاتب، ولو كان لي أن أقدم رجاء فهو أن يهتم شبابنا المثقف من أزهريين وجامعيين (بمعاونة الأزهر والجامعة معاونة روحية ومادية) بنشر النصوص الفلسفية والكلامية القديمة، فد حان الوقت في هذا الميدان أن نطير بأجنحتنا كما يقول الغربيون وألا نظل إلى الأبد عالة على المستشرقين.
إننا نلفت نظر من يهتم بتاريخ الفلسفة الإسلامية والمسيحية في القرون الوسطى إلى ثلاثة كتب قيمة ظهرت حديثاً في هذا الموضوع: