وزها بها ورد الاقاح ونرجس ... وشقائق النعمان والأزهار
وبعد أن مكث في الآستانة مدة عيّنه السلطان عبد المجيد شيخاً على الحرم النبوي، وأرسله إلى المدينة المنورة عام ١٢٦٠ هـ ١٨٤٤ م، وهناك أكب على الدرس والمطالعة والتأليف والتعليم وهو شيخ، وقد أفاد أهل المدينة من وجوه كثيرة، وكان الغرض الذي ينشده هو أن يؤسس كلية إسلامية فقهية تكون بمثابة كعبة للعلوم الدينية يؤمها جميع الطلاب المسلمين من أقصى أطراف المعمور وذلك لإنارة أذهانهم وتوسيع نطاق معرفتهم بيد أن المنية أنشب أظفارها به قبل بلوغ المرام في سنة ١٢٧٧ هـ ١٨٥١ م وقد عظم موته على جميع معارفه ومحبيه لما كان له من الدالة عليهم والمنزلة الرفيعة بين ظهرانيهم ودفن بحذاء مدفن عثمان بن عفان، وقد أوصى قبيل موته أن لا تبنى قبة على ضريحه بل أن ينصب شباكا من الحديد حول قبره ووقف في المدينة بستانه العامر المسمى بالداودية، وكان قد أرخ بناءه وغرس أشجاره الشيخ صالح التميمي بقصيدة عامرة الأبيات فأعجب بها الوزير غاية الإعجاب حتى أنقده ألف ريال، وكان رحمه الله ندي الكف للعلماء والشعراء والأدباء، وقد غمر الكثيرين منهم بالجوائز والصلات السنية مقتدياً بالخلفاء العباسيين الذين كانوا يسبغون العطاء على أرباب العلم والأدب.
ومما يجدر بنا أن نجعله مسك الختام لسيرة هذا العالم العامل هو إنشاؤه خزانة كتب في المدينة وقد جمع فيها طائفة كبيرة من التصانيف على اختلاف موضوعاتها وبينها مخطوطات عديدة، وإن أردنا أن نلم بكل الإصلاحات التي قام بها في بغداد والأستانة ضاق بنا المقام عن نشرها، ولما نعته الصحف رثاه شعراء عصره من عراقيين وسوريين بقصائد عددت مناقبه الحميدة وما كان له من الهمة الشماء واليد البيضاء في نشر العلم والأدب في الأقطار العربية. وقد جمع أحد أدباء بغداد كل القصائد التي نظمت في مدحه والثناء على عبقريته وهذا الكتاب لا يزال خطاً.