للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عاصمة الدولة البيزنطية، واخترق البحر الأبيض وتجول في جزائره حتى صقلية؛ ولم يترك، على قول ابن خلكان (براً ولا بحراً ولا سهلاً ولا جبلاً من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآه، ولم يصل إلى موضع إلا كتب خطه في حائطه). واشتهر ذلك في الآفاق كلها، وهو الوحيد الذي تلقبه الرواية الإسلامية (بالسائح) وأسره الفرنج والقرصان مراراً، وضاعت كتبه ومذكراته، كما يخبرنا بذلك كتابه الذي انتهى إلينا، وهو سفر صغير عنوانه (الإشارات إلى معرفة الزيارات) وفيه يقص باختصار سير رحلته، وما شاهده من الأماكن والمعاهد، دون وصف ولا إسهاب. وفي أواخر القرن السادس استقر أبو الحسن في حلب بعد طول التجوال، ونال حظوة لدى أميرها وتوفي سنة ٦١١هـ (١٢١٤م) ودفن بتربة أعدها لنفسه، وكتب عليها حسب وصيته ومن إنشائه تلك الكلمات المؤثرة: (هذه تربة العبد الغريب الوحيد علي بن أبي بكر الهروي، عاش غريباً، ومات وحيداً، لا صديقاً يرثيه، ولا خليلاً يبكيه، ولا أهطل يزورونه، ولا إخوان يقصدونه، ولا ولد يطلبه، ولا زوجة تندبه؛ آنس الله وحدته، ورحم غربته).

وأما الثاني فهو أبو الحسين محمد بن احمد بن جبير الأندلسي. رحل من الأندلس شرقاً إلى أفريقية ومصر والشام والحجاز. وكان رحالة بطبيعته قوي الملاحظة والوصف. رحل من غرناطة إلى المشرق ثلاث مرات، الأولى سنة ٥٧٨هـ والثانية سنة ٥٨٥هـ، والثالثة في أواخر القرن السادس، وقطع البحر الأبيض مراراً، وطاف بمعظم جزائره وثغوره الجنوبية والشرقية، وتجول في بلاد مصر والشام والحجاز، وقاسى في أثناء تجواله كثيراً من الشدائد، وأشرف مراراً على الهلاك في البحر، واستقر أخيراً بالإسكندرية وتوفي بها سنة ٦١٤هـ (١٢١٧م) ودون أخبار رحلاته في سفر كبير ممتع يسميه (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار). وفيه يدون مشاهداته في الأمم والبلاد التي زارها؛ ويقص حوادث أسفاره مفصلة بالتواريخ في نوع من (المذكرات)؛ وهو أثر شائق الأسلوب والوصف يعتبر نموذجاً بديعاً لأدب الرواد.

ونستطيع أن نذكر من الرواد المسلمين في هذا العصر أيضاً، عبد اللطيف البغدادي الطبيب العلامة الذي وفد على مصر في أواخر القرن السادس الهجري، وطاف بعد ذلك فلسطين والشام وبلاد الروم الأناضول يدرس أحوالها ومجتمعاتها. وقد دون عبد اللطيف مشاهداته

<<  <  ج:
ص:  >  >>