نشرت إحدى الصحف اليومية برقية لمراسلها الخاص يقول فيها:(إن أبناء تونس تدل على أن في هذه البلاد نهضة كبيرة في ميدان الأدب العربي بصفة خاصة، والعلوم بصفة عامة، ومن الأدلة على ذلك أن مسرحية هامة بعنوان (هرون الرشيد) ستمثل قريبا برعاية جمعية النهضة التمثيلية، وستتبعها رواية (فتح العرب لصقلية) بإشراف جمعية الاتحاد المسرحي، كما مثلت رواية (مجنون ليلى) من قبل على مسرح المدينة الرئيسي، ورواية (طارق بن زياد) ثلاث مرات).
ثم تقول البرقية:(ومن النواحي الأخرى في هذه النهضة زيادة عدد الصحف اليومية والأسبوعية، فقد ظهرت جريدة (المرآة) وهي وطنية، ومجلة الشعب التونسي - وهي تنطق بلسان نقابات العمال).
وأخيرا تقول هذه البرقية (وقد ساهمت المرأة التونسية في تثقيف بنات جنسها، واشتركت كثيرات منهن في إلقاء المحاضرات، ومنهن الآنسة - ليلى حلواني - التي تذيع رسائل بالراديو عن فائدة الرياضة للمرأة، وتجمع الآن اكتتابات لإنشاء مدينة جامعية في ضواحي تونس على مثال مشروع المدينة الجامعية في مصر، وما زالت التبرعات تتدفق على العاصمة لهذا الغرض، وقد زادت حتى الآن على عدة ملايين من الفرنكات).
قرأت هذه البرقية فضحكت، وإنها لشيء يدعو إلى الضحك، وإلى السخرية، وإلى الإشفاق! وهل ثمة أعجب وأغرب في هذا العصر من أن يعتبر تمثيل رواية، أو إنشاء مجلة، أو إذاعة آنسة لحديث دلائل (نهضة كبيرة في ميدان الأدب العربي بصفة خاصة والعلوم بصفة عامة)!! إن هذه الأمور التي تعددها البرقية وتشيد بها ليست إلا أمور بدائية ينهض بها التلامذة في مدارسهم. ففي أي مدرسة ثانوية يمثلون الروايات، ويصدرون المجلات، ويذيعون المحاضرات والمناظرات، فكان هذه (النهضة الكبيرة) في تونس بعد هذا الدهر الطويل ليست إلا نهضة مدرسة ثانوية لا أكثر ولا أقل.
على إنك إذا علمت أن هذه البرقية إنما أذيعت من باريس، وأنها دعاية استعمارية هدفها التمويه والتلبيس، وتبينت حقيقة الحال في ذلك القطر الشقيق، وأدركت أن هذا الذي يمن به الفرنسيون في تلك البرقية قد كشف صنيعهم، وأظهر للناس كيف أن الحياة الأدبية في قطر عريق عتيد لا تزال عند ذلك الوضع البدائي التافه الذي لا يعدو مشاهدة رواية