(ثم رأيت إلياس أبيشبكة بعد أن قرأته، فعاينت شعره فيه، كما عاينته في شعره. . إن في لفتاته لمعات ليست من هذه البلاد ولا من هذا الزمان، لقد انتقم جسده من روحه قبل أن تنتقم السلطات منه، ويبتسم الشعب المستعبد لأقواله. .).
ذلك هو إلياس أبوشبكة الذي فقده الأدب والشعر، وتلك هي شاعريته التي خسرها الفن والحق، نمت واكتملت، وظهر من آثارها الخالدة ما أكبره أبناء العروبة وقدروه حق قدره. على إنه إلى جانب الشعر كان كاتبا له أسلوبه المشرق، وتعبيره المونق، وفنه المتدفق، فلا شك أن كان فقده نكبة للأدب وخسارة على العربية.
مبشر ثقافي أم سياسي:
لقيني صديق كريم من أبناء سوريا فحدثني عما نشرته (الرسالة) عن رحلة الأديب الفرنسي الكبير الأستاذ جورج ديهاميل إلى بلاد الشرق العربية: (لقد قرأت ما كتبتموه في عددين سابقين عن هذه الرحلة التي يقوم بها مسيو (جورج ديهاميل) الآن، ووصوله إلى مصر لألقاء بعض الأحاديث والمحاضرات، وقد أعجبني أن فطنتم للغرض من هذه الأحاديث والمحاضرات إذا قلتم إنه يقصد بهذا إلى الدعاية للثقافة الفرنسية، وأحب أن أقول لحضراتكم ولقراء الرسالة الكرام، إن ديهاميل قدم إلى أقطار الشرق العربي وفي برنامجه الرسمي الموضوع أن يرى بعينيه ما يريد العرب والمسلمون، وأن يستمع بأذنيه إلى ما عندهم من الآراء فيما يقصدون ويهدفون، وعليه من ضوء ما يرى وما يسمع، أن يذكر بما أدته الحضارة الغربية عامة، والفرنسية خاصة إلى العرب والمسلمين والى التراث الإسلامي، وأن يواجه أنظار الذين يقابلهم ويتحدث إليهم إلى أن مطامحهم لا يمكن أن تتحقق إلا بتمام الاتفاق والحرص على الاتصال بالحضارة الغربية، أو بمعنى أخص وأجلى بالحضارة الفرنسية. . . فهو في الواقع مبشر سياسي يصبغ فكرته بصبغة الثقافة، ولعل ديهاميل يقتنع في نهاية الأمر بأن الشرق قد أصبح على بينة من أمره، وأنه صار يدرك تمام الإدراك أن نفوذ الثقافة لا حد له، ولا وطن له، ولكن نفوذ السياسة يجب أن يكون محدودا بالحدود الطبيعية، محصورا بالدعائم القومية، وعلى هذا الأساس الذي هو ضمان السلام فيالأرضيريد الشرق ان يصغي على حسابه مع الغرب).